كيف تفكّر الدول؟ عقلانية السياسة الخارجية!

 هذا الكتاب قد أعدّه المؤلفان، "جون ميرشايمر وسيباستيان روساتو جون جيه".

"ميرشايمر" هو أستاذ الخدمة المتميزة للعلوم السياسية في جامعة شيكاغو، 

أما "سيباستيان روساتو" فهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة نوتردام.

صدر هذا الكتاب في عام 2023، عن جامعة "ييل-الولايات المتحدة الأميركية"، ويتناول فكرة العقلانية واللاعقلانية الاستراتيجية في السياسة الدولية، ويعكس الكتاب وجهة نظر المؤلفين بأن قرار الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" على مستوى السياسة الخارجية، وقيامه بغزو أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، كان عملاً عقلانياً، على عكس المعتقد السائد في الغرب. 

وجود فاعل عقلاني:

يجيب "جون ميرشايمر" في هذا الفصل عن سؤالين ذوي صلة.

أولاً، ما هي العقلانية؟ وأيّ مناقشة للافتراض العقلاني للجهة الفاعلة يجب أن تبدأ بفهم سليم لما يعنيه أن تفكّر الدول وأن تتصرّف بعقلانية، وفي المقابل، ما يعنيه لها أن تفكّر وتتصرّف بطريقة غير عقلانية. ومن دون تعريف ملزم، يستحيل وضع خط أساس يمكن استخدامه للتمييز بين العقلانية والفكر والعمل غير المنطقيين.

ثانياً، هل الدول هي في الواقع جهات فاعلة عقلانية؟ أي، هل يُظهِر السجل التجريبي أنّها عقلانية روتينياً أو غير منطقية روتينياً؟

ينبّه المؤلف إلى أنه في مرحلة ما على مدى السنوات الـ 25 الماضية، ومع تزايد الأحداث الدولية أصبح القادة الأميركيون يصفون خصومهم الأجانب بأنهم غير عقلانيين. مستشهدين بأمثلة مثل صدام حسين، ومحمود أحمدي نجاد، ومعمر القذافي، وكيم جونغ أون، وفلاديمير بوتين، وفي بعض الحالات شُبهوا بـ "أدولف هتلر"، الذي كثيراً ما يُصوَّر على أنه رمز للاعقلانية.

ففي الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في شباط/فبراير 2022، وعلى عكس الانتقادات الشائعة، يُجادل المؤلفان بأنّ قرار روسيا بالتدخّل العسكري في أوكرانيا كان عقلانياً، وأن الحرب كانت نتيجة لعملية تداول داخلية، حيث تشاور بوتين مع مستشاريه وهو ما يتعارض مع وجهة النظر القائلة إنه تصرّف بمفرده في هذا القرار، ويستشهد الكتاب بمذكرة "ويليام بيرنز التي كتبها عام 2008، لدعم التأكيد أن القادة الروس، بمن فيهم بوتين، ينظرون إلى علاقة أوكرانيا مع الغرب على أنها تهديد كبير.

يعقد المؤلفان في هذا الفصل مقارنة لاتخاذ القرار على المستويين الفردي والسياسي، ويشير المؤلف "ميرشايمر" إلى أن علماء النفس السياسي يركّزون على نظرية "الاختيار العقلاني" المتمثّلة في كيفية اتخاذ الأفراد قراراتهم فيما بين خيارات السياسات البديلة. ويدّعي علماء الاختيارات العقلانية أن الأشخاص العقلانيين يتصرّفون "كما لو" أنهم يهدفون إلى تعظيم فوائدهم المتوقّعة إلى أقصى حد. ولا ينظر هذا النهج في الكيفية التي يفكّر بها الأفراد فعلاً في خياراتهم. 

العقلانية الاستراتيجية وعدم اليقين:

يشير المؤلف في هذا الفصل إلى مثالين ليوضح ما يعنيه القول بأنّ الدول عقلانية استراتيجياً. 

أولاً، الفرق بين العقلانية الفردية والجماعية، وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون صناع السياسات والدول عقلانيين. 

ثانياً، فهم وتحديد كيفية التعامل مع العالم الحقيقي وهو جوهر العقلانية الاستراتيجية، فإننا باختصار نصف السمة المميّزة للسياسة الدولية بأنها هي عدم اليقين. 

يوضح المؤلف في هذا الفصل كيف يجب على صانعي القرارات دائماً أن يتجنّبوا   عجزاً خطيراً في المعلومات عند صياغة السياسة الخارجية.

وفي هذا الشأن، يقدّم المؤلفان أربعة أمثلة تاريخية لاتخاذ قرارات استراتيجية كبرى، إضافة إلى خمس حالات لاتخاذ قرارات عالية الخطورة لدعم الحجة الأساسية التي توصّل إليها الكاتب بأن الدول وصنّاع القرار يفكّرون ويتصرّفون بشكلٍ عقلاني ومتكرر. وبالرغم من أن كلّ واحدة من هذه الحالات العشر قد تمّ تقديمها كمثال من قبل وجهات نظر أخرى على عدم العقلانية، إلا أن الكتاب يثبت أنه في كل حالة، كانت عملية اتخاذ القرار قائمة على النقاش والمداولة وأدت إلى سياسة تستند إلى نظرية موثوقة.

ومن بين هذه الحالات، سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى فرض الهيمنة الليبرالية بعد الحرب الباردة، وتوسّع حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة، والسياسات الأميركية تجاه أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وشرق آسيا بعد الحرب الباردة. ومن بين الحالات الأوروبية، قرار ألمانيا ببدء الحرب العالمية الأولى وغزو الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، وكيفية مواجهة فرنسا للتهديد النازي قبل الحرب العالمية الثانية.

يقدّم المؤلفان الحجة، أنه عند مناقشة العقلانية الجماعية في السياسة العالمية، من المهم أن نلاحظ أن السلطة التنفيذية للدولة هي العقلانية، وليس الدولة ذاتها. وتتألف مجموعة قيادية بدورها من عدة مسؤولين ـــــ عادة رئيس الحكومة إضافة إلى عدد قليل من الوزراء والمستشارين ـــــ الذين يعملون جماعياً لصياغة سياسة الدولة العقلانية. 

يؤكد الكاتب، أنه من الصحيح أيضاً أن العلاقات الدولية لا يمكن فهمها فهماً كافياً من حيث المواقف والسلوكيات الفردية، وعادة ما تتناول نماذج النظام الدولي الوحدات الأكبر حجماً، والدول القومية، بوصفها جهات فاعلة رئيسية" وبالتالي فإن مسألة ما إذا كانت الدولة رشيدة تتوقّف على عملية التداول داخل الدولة والتي تترجم آراء واضعي السياسات إلى قرار نهائي.

العقلانية وإدارة الأزمات:

يقدّم المؤلفان في هذا الفصل خمس أزمات دولية بارزة تمّ تحديدها كحالات من السلوك غير العقلاني في السياسة الدولية وهي كالآتي: 

قرار بدء ألمانيا الحرب العالمية الأولى في عام 1914؛ فضلاً عن قرار اليابان بمهاجمة الولايات المتحدة في بيرل هاربور في عام 1941. وقرار أدولف هتلر بغزو الاتحاد السوفياتي في عام 1941. وقرار الولايات المتحدة بتسوية أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962. وقرار موسكو بغزو تشيكوسلوفاكيا في عام 1968.

 في كل حالة من الحالات السابقة، نجد أن الدولة فاعل غير عقلاني، وعلى الرغم منذ ذلك استندت سياستها إلى نظرية ذات مصداقية بالنسبة لها، وخرجت من عملية تداولية لتمهّد الطريق لاتخاذ قرارات استراتيجية حكيمة.

على الرغم من أن هذا الكتاب يركّز على استراتيجية الدولة وقرارات الأزمات الدولية، يدرس هذا الفصل بإيجاز قرارين لتصعيد الحروب المستمرة التي تمّ الاستشهاد بها كأمثلة بارزة على اللاعقلانية: قرارات الولايات المتحدة لعبور خط العرض 38 خلال الحرب الكورية وزيادة التدخل الأميركي في حرب فيتنام.

أنماط سلوك الدولة اللاعقلاني:

ينبّه المؤلفان في هذا الفصل إلى أنه يجب أن تستند سياسات الدول العقلانية إلى نظريات موثوقة وتنتج عن عملية تداولية داخل الدولة وليست عملية سلطوية. ومع ذلك، فإنّ الدول تتخذ قرارات غير عقلانية.

حدّد "جون ميرشايمر" قرارات اللاعقلانية للدولة في ثلاثة أشكال كالآتي: أولاً: يستخدم صانعو القرار نظرية غير موثوقة أو حجة غير نظرية ويفشلون في المداولة داخل الدولة. ثانياً: يعتمدون على مصداقية النظرية ولكن عملية صنع السياسات غير تداولية. ثالثاً: يستخدمون نظرية غير موثوقة أو حجة غير نظرية، لكنهم ينخرطون في المداولات.

ينبّه "ميرشايمر" من الناحية التجريبية إلى أنّ الفشل في توظيف نظريات موثوقة. من بين الحالات الأربع الموصوفة في هذا الفصل، وهناك حالتان تتضمّنان صياغة غير عقلانية بالنسبة للاستراتيجيات مثل: قرار ألمانيا الإمبراطورية ببناء قوة بحرية مصمّمة لتحدّي بريطانيا في مطلع القرن العشرين واختيار بريطانيا عدم بناء جيش للدفاع عن الأوروبيين في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. الحالتان الأخريان تتعلقان بسياسات غير عقلانية أثناء الأزمات: قرارات أميركا بإطلاق غزو خليج الخنازير عام 1961 وغزو العراق عام 2003. 

عقلانية الهدف:

يجادل "ميرشايمر" في أن بعض الدول أعطت الأولوية للبقاء وهي ليست السمة المميّزة لعقلانية الهدف. ولذلك يشرح المؤلف أوجه القصور فيها. ويرى بعض العلماء أنه ليست هناك فائدة كبيرة من مناقشة عقلانية الأهداف لأنه لا يوجد ما يُعد هدفاً عقلانياً أو غير عقلاني. بالنسبة لهؤلاء، هناك نوع واحد من العقلانية فقط، وهو ما يطلق عليه العقلانية الاستراتيجية. ولا يتفق "ميرشايمر وروساتو" مع هذا الرأي، إذ يريان أنه إذا كانت العقلانية تعني فهم العالم بغرض التحرّك فيه تحقيقاً لأهداف معينة، فإن تفسير هذا المفهوم يجب أن يشمل كيفية تفكير الدول في أهدافها إضافة إلى كيفية تحقيقها. 

ينبّه المؤلفان أيضاً إلى أنّ للدول العديد من الأهداف، بعضها البقاء على قيد الحياة، وتهدف تلك الدول إلى الحفاظ على قدرتها على تقرير مصيرها السياسي، وتشمل الحفاظ أيضاً على القاعدة المادية للدولة مثل؛ أراضيها وسكانها والموارد الموجودة داخل حدودها. ويمكن للدولة إدارة شؤونها المحلية والدولية الخاصة إذا كانت تحتفظ بالسيطرة على مؤسساتها المحلية، وخاصة السلطة التنفيذية، الهيئات التشريعية والقضائية والإدارية، بما في ذلك تعظيم ازدهارها ونشر أيديولوجيتها.

العقلانية في السياسة الدولية:

يفسّر المؤلفان الكثير من نظريات العلاقات الدولية الحديثة – وخاصة النظريات الليبرالية والواقعية، والتي هيمنت على الخطاب الأكاديمي في سبعينيات القرن العشرين، ثمانينيات القرن العشرين، وتسعينيات القرن العشرين التي تقوم على فكرة أن الدول هي الجهات الفاعلة العقلانية، بمعنى أن قادتها يتصرّفون بطريقة هادفة في صنع السياسة الخارجية. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك إجماع فضفاض على أن الدول العقلانية تفكّر من حيث إيجابيات وسلبيات السياسات المختلفة والمتبعة عند تحديد كيفية التنقّل واتخاذ القرار في النظام الدولي.

يقدّم "ميرشايمر" انتقاداً لافتراض الفاعل العقلاني في جزءين: أولاً، اعتمد العديد من النقاد الأوائل على رؤى علم النفس ليجادلوا بأن صانعي السياسات، مثل جميع البشر، لديهم قيود معرفية غالباً ما تمنع القرارات العقلانية، ثانياً، تقليد الاختيار العقلاني، وهو افتراض أن الدول يمكن أن تتعامل "كما لو" أن قادتها يتصرفون بعقلانية مع أنّ قادتها لم يكونوا عقلانيين في الواقع.  

يرى "ميرشايمر" أن قرار الولايات المتحدة قبول انضمام الدول الشيوعية الأوروبية السابقة إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، كان قراراً عقلانياً؛ على الرغم من هجومه الشديد على هذا القرار، لأنه كان يستند إلى نظريات عقلانية ومنطقية. 

يتفق المؤلفان في تفسيرهما وملاحظتهما، أن قرارات روسيا فيما يخص المواجهة مع الغرب بشكل عام وفي أوكرانيا بشكل خاص، نابع من قرارات عقلانية ذات تداولات وقائمة أيضاً على نظرية عقلانية على عكس ما هو سائد في الغرب. 

* محمد نبيل الغريب