جناية الفيس بوك على الكتابة

لا أعرف كيف هو الحال في البلدان الأخرى. أما في اليمن، فقد تسبب الفيس بوك بضربة مهولة للكتابة. وأظن أن الباحث، بعد عشر سنوات، عندما يبحث عن أسباب تدني مستوى الأدب والإبداع في اليمن في السنوات الأخيرة، عما كان قد حققه هذا المستوى خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي من تقدم نسبي. عندما يبحث عن أسباب هذه التراجع، سيكتشف أن السبب هو دخول مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها، وتعامل المبدعين معها بتلك الطريقة السلبية.

لا شك أن مواقع التواصل الاجتماعي، والفيس بوك تحديدا، وسيلة مهمة في نقل الصورة والمعلومة والتفاعل، وهذا كان له دور كبير في نشر الوعي على نطاق واسع، أكثر من أي فترة سابقة. لكن هذه الوسيلة -رغم أهميتها ورغم ما قدمته من خدمات في سبيل نشر الوعي- لها معايير خاصة، حين يتعلق الأمر بالكتابة، وحين يتم استخدامها كوسيلة لنشر الكتابات الإبداعية، معايير سلبية، بل ومدمرة.

الفيس بوك يفرض على الكاتب أن يلتزم، بطريقة لا شعورية، بكثير من الشروط، حتى يصبح مقبولا ورائجا في عالمه، عالم الفيس بوك طبعا، من هذه الشروط على سبيل المثال:

-أن تكون الكتابة مكثفة وواضحة إلى أبعد حدود التكثيف والوضوح. فجماهير الفيس بوك، غالبا، لا تملك الوقت الكافي لقراءة كتابة تتطلب بعض الجهد لفهمها.

-أن تكون الكتابة قصيرة وموجزة وتقتصر على تناول الموضوعات اليومية التي يمكن التعبير عنها بأقل قدر من الكلمات، وتبتعد عن الموضوعات العميقة والجادة.

عندما نتأمل هذين الشرطين، سنجد أنه ليس مطلوبا منك، أن تكون "كاتبا كبيرا"، لكي تحقق بعض الشهرة في الفيس بوك. يكفي أن تملك قليل من الذكاء، وقليل من المعلومات، وقليل من المهارة، ترضي من خلالها مزاج الجمهور في مواقع التواصل الاجتماعي، وستحقق الشهرة. بمعنى أنه يكفي أن تكون "كاتبا صغيرا" ، كي تنال شهرة الفيس بوك، وهكذا أصبح منتهى طموح المبدعين الشباب، هو أن يكونوا "كتاب صغار" ، دون أن يتنبهوا لذلك، واتجهت غالبية المواهب الشابة هذا الاتجاه. وهنا تكمن جناية الفيس بوك على الكتابة. لقد أغرى الجميع، بالشهرة السهلة التي يضمنها مقابل قليل من الجهد. وصَرَف اهتمامهم، عن الأهداف الكبيرة والحقيقية للمبدع.

لم نعد نشاهدمثلا- مِن المواهب الشابة، مَن يطمح لأن يكون روائيا كبيرا، أو مفكرا، أو شاعرا يكتب له الخلود. لم نعد نشاهد شيئا من هذا. وذلك لأن مستوى "الروائي الكبير" أو "الشاعر الخالد" يفرض على المبدع الشاب أن يبذل جهدا كبيرا، قبل أن يتحقق له، جهدا قد يصرفه بعض الوقت عن الفيس بوك، وهو ليس مستعد لهذه التضحية، لأنه يريد أن يلحق بركب زملائه الذين أصبحوا معروفين في مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت لهم صولات وجولات فيها. وهكذا أصبح هدف غالبية المواهب الشابة، هو أن يطوروا قدراتهم طبقا لمعايير مواقع التواصل الاجتماعي، لكي يصبحوا مشهورين بدورهم. لقد خلق الفيس بوك جوا تنافسيا زائفا ومدمرا لروح الإبداع والأصالة.

بالطبع، أنا لست ضد استخدام الفيس بوك كوسيلة للنشاط والنشر من قبل الكاتب أو الشاعر، أو المبدع عموما. لست ضد هذا الأمر برمته، أنا ضد أن يتحول الفيس بوك إلى "غاية" بحد ذاته. يجب أن يظل الفيس بوك مجرد وسيلة، وأن يظل للمبدع غاية أسمى، وهدف كبير، أكبر من مجرد "شهرة سهلة" يمكن تحقيقها في مواقع التواصل الإجتماعي. وهنا أريد أن أهمس بكلمة صغيرة لكل المواهب الشابة.

لا تجعلوا "الشهرة السهلة" التي يقدمها الفيس بوك، مصدر اغراء لكم. هذه الشهرة مثلما أنها تأتي بسهولة، تزول بسهولة أكبر. من منا اليوم لا يزال يتذكر نصر طه مصطفى، رغم أنه كان قبل سنوات قليلة فقط، أكثر الكتاب اليمنيين شهرة وشعبية في مواقع التواصل الإجتماعي؟ لا أحد. ولولا الكتاب الذي نشره مؤخرا، والذي يمكن أن يمنح نصر طه بعض الصمود في ذاكرة الثقافية اليمنية، بحسب أهمية الكتاب طبعا، لولا هذا الكتاب، لنٌسِي نصر طه مصطفى نسيانا لا رجعة عنه. الأمر ذاته ينطبق على مروان الغفوري، ونبيل سبيع، ومحمود ياسين، وحسين الوادعي، وغيرهم. هؤلاء سيجر النسيان عليهم أذياله، بأسرع وقت ممكن. ربما قد ينجو من بينهم مروان الغفوري، لكن ليس بفضل مقالاته التي ينشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، رغم كثرتها، وإنما بفضل مشروعه الروائي الذي يسعى لتحقيقه، لكن هذا الاحتمال لا يزال بعيدا، لأن روايات الغفوري، إلى حد الآن، لا زالت تفتقر إلى القوة ورباطة الجأش. وهذا ينطبق أيضا على روايات محمود ياسين. والسبب في أن روايات الغفوري وياسين، تفتقر إلى "القوة" و "رباطة الجأش" هو أنهما مشغولان بالفيس بوك، وبأمجاده التي تشبه أمجاد دون كيخوت. إنهما ليسا فاضيَيَن لأعمال كبيرة وخالدة. فلتسامحني ياصديقي محمود، على هذه القسوة.

وإذا تركنا مجال الكتابة العادية، وانتقلنا إلى الشعر، سنجد أن جناية الفيس بوك أشد وطأة على الشعر، من غيره، وذلك بسبب طبيعة الشعر التي تتناقض مع شروط مواقع التواصل تناقضا أكبر من تناقض أنواع الكتابات الأخرى معها. لا شك أنكم ستقولون الآن، وكيف ذلك، ما هو شكل هذا التناقض؟ وهنا سأجيب موضحا:

عندما يكتب الشاعر لجمهور الفيس بوك، لا يكون مهتما بصدق التجربة الشعرية، بقدر اهتمامه بجذب أكبر عدد من المعجبين، وهذا يدفعه لاختيار الالفاظ والأوزان الرنانة التي تصل الى غايتها بسرعة، وهذا الأمر يحوّل الشعر الى نوع من النظم الخالي من أي قيمة أدبية، على طريقة الخباز العظيم إبراهيم طلحة.

لهذا السبب، سنظل نصلي من أجل عبدالعزيز المقالح، وندعو له بطول العمر، لأن المقالح عندما يموت، سيموت تقريبا آخر شاعر يمني كبير، وليس هناك-فيمن أعلم على الأقل- من هو جدير بأن يحل مكانه

كان هناك شاعر شاب، هو يحيى الحمادي، يملك امكانيات الشاعر الكبير، وكان باستطاعته أن يجعل من نفسه شيئا مهما. لكنه، بسبب استسلامه لمزاج الفيس بوك وانهماكه فيه، تدهور في الثلاث سنين الأخيرة تدهورا واضحا، وهو الآن في طريقه إلى الانقراض

مرة أخرى، لا يجب تجاهل الفيس بوك وبقية مواقع التواصل الاجتماعي تجاهلا نهائيا، لأن لهذه الوسائل إيجابيات أكثر من أن تحصى، ما يجب فعله هو الحد من تأثيراتها السلبية، ومحاولة استغلال ايجابياتها دون الاستسلام التام لها، وذلك بأن تستخدم لما صممت له، كوسيلة للتواصل فحسب، وليس لصناعة الظواهر الإبداعية الكبيرة. المبدعون عليهم أن يبحثوا عن طريقهم إلى الخلود في مكان آخر غير الفيس بوك.

نريد أسماء تحذو حذو البردوني والزبيري والمقالح ولطفي أمان وعلي أحمد باكثير ومحمد عبدالولي، لا نماذج يستطيع السنيان محوها خلال أشهر

  • من حائط الفيس بوك