صنعاء .... !

حاول أن تلملم أجزاءك قبل الدخول من باب اليمن. صنعاء مدينة القرار الجماعي السريع في الدين والحرب والبيعة والحب.
دخلها التاريخ أكثر مما دخلته، ولم يتمكن من الخروج بعد أن أدمن الكسل الأرستقراطي.
إنها المدينة المدللة التي ظلت تتخذ القرار السياسي من قلب الطيرمانة، حيث القات والماء المبخر. إنها تقرر الحرب، وتترك التفاصيل لرجال القبائل.
عندما اقتربت بشكل آخر من هذه المدينة، كان الجميع يعدون لرمضان عدته، شراء لوازم الطعام ومكوناته، وخصوصاً أطعمة رمضان كالسنبوسة والبقلاوة والرواني وأنواع العصائر.
وكان الحديث عن جرعة اقتصادية قادمة ومؤامرة أجنبية يقودها سوري محترف تم إلقاء القبض عليه، واعترف بتفاصيل عمليات تخريب واغتيالات.
كثيرون أولئك الذين يدخلون صنعاء وينقسمون ويخرجون، وتبقى صنعاء مدينة استثنائية لا تتكرر ولا تنقسم.
كذب المنجمون
قبل أن أتجاوز باب اليمن، فضلت معرفة أشياء لا يمكن معرفتها لأنها مستقبلية، وحدها العجوز ذات العين الموغلة في القدم والغموض، تدعي أنها تعرف، هي عرافة، لكن اسمها وصفتها في اللغة الدراجة "متنبلة".
هذه العجوز لا ترجو ولا تتزلف، إنها تؤدي عملها بكبرياء مقابل 20 ريالاً لتقوم بتحريك الأصداف البحرية التي تشبه عينها اليمنى:
أول ما أخبرتني به هو: هناك أناس يكرهونك.
- أعلم ذلك لأن كل الناس يكرهونني.
قالت: أنت كريم وشجاع، وستكون من الأغنياء.
قلت في نفسي: أنت التي كريمة فوهبتني كل هذا الأمل.
عندما تقف أمام الباب الرئيسي لهذه المدينة الرائعة المدللة، ستنشطر إلى اثنين؛ أحدهما يعيش القرون الوسطى، والآخر في القرن الـ20.
يا للتصميم الشرقي الحربي الرائع.. سور يتوسطه باب عظيم مفتوح ومزدحم بالناس وباعة الملابس والخردة المتجولين والصيارفة.
لست بحاجة إلى مفتاح باب اليمن لتدخل. لأنك لست رئيس دولة أجنبية أو عربية ليمنحوك هذا المفتاح.
كنت لحظتها قد وقعت في حيرة بالغة، لأن معظم الرؤساء الذين يزورون هذه المدينة يعودون بمفتاحها..
تعددت المفاتيح وتجاوزت الـ20 مفتاحاً.. بحثت عن سبب لتعدد المفاتيح، ففشلت، وقلت في نفسي:
- ربما كان الأئمة يصنعون مفتاحاً خاصاً بهم، ولكثرة الأولاد (أولاد الأئمة طبعاً) فإنهم يلجؤون إلى نسخ المفتاح الأصلي إلى عشرات النسخ. حتى إذا ما تأخر أحد الأمراء في جلسة قات خارج أسوار المدينة، يكون بحوزته مفتاحه الخاص حتى لا يدق الباب ويزعج الناس وهم نائمون، أو لا يجد من يفتح له؛ فيفتح الباب في أي وقت من الليل ويدخل. أو هكذا خيل لي.
السبب الثاني هو أن هؤلاء الرؤساء الأجانب سيصبحون غير رؤساء ولا سياسيين، وإذا ما هز الشوق أحدهم إلى العاصمة اليمنية، وعاد، فربما لن يجد غرفة في أحد الفنادق في صنعاء الجديدة. سيكون مفتاحه الخاص معه، وما عليه إلا أن يفتح باب اليمن، ويذهب للنوم في أقرب سمسرة.
باب اليمن مزدحم للغاية، عندما دخلت بخطوتين قفزت إلى ذاكرتي أسماء كثيرة وأحداث متعاقبة.
من هنا دخل عشرات الملوك والأئمة، ومن الأبواب الأخرى خرجوا..
من هنا بدأ تاريخ النهب والمصادرة، وانتهى عند آخر بيت في شمال المدينة، ليولد من جديد، صانعاً مشردين جدداً وأثرياء كثيرين.
صنعاء مدينة التحف والمال، وكل ما يمكن إضافته إلى قوائم الطامعين.
دخلها الأحباش بأمر من بيزنطة التي كانت تبحث عن أماكن جديدة تتحكم في طرق التجارة (525-573). نهبوا المدينة، وبدأوا يفكرون في سبيل جذب العرب إلى صنعاء للمتاجرة والزيارة.
فطافت فكرة بناء القليس (القليس كلمة محرفة عن الكسيا، وهي تعني الكنيسة).. لم يكن يريد الأحباش من بناء القليس شيئاً أكثر من منافسة مكة بكعبة جديدة أكثر جمالاً وفخامة.
غرقة القليس
عندما بحثت في ما بعد عن القليس، وجدت حفرة مليئة بالزبالة، حولها سور حجري قبيح مكتوب "سور غرقة القليس من منجزات أمانة العاصمة"، وتاريخ الإنجاز الذي لم أعد أذكره.
هذه الحفرة تقع في قلب حي يسمى باسمها؛ حي غرقة "القليس"، ولم أجد إلى الآن سبباً لتسميتها غرقة "بالقاف"، وأظن أن السبب يعود إلى أن الكثيرين قد قاموا بالحفر على مر الأيام بحثاً عن ذهب القليس.
وفي عام 932هـ اقتحمها "برسباي"، أحد قادة الجراكسة، أيام قنصوة الغوري، بعدما قتل عامر بن عبدالوهاب، أحد ملوك بني طاهر، ويقال إنه غادرها بحمل 8 آلاف جمل.
واقتحمها الأتراك أكثر من مرة، فباعوا عاداتهم الأرستقراطية لأثرياء المدينة، وحاولوا أخذ فقرائها للحرب ضد بني جلدتهم.
في عام 1322هـ اقتحمها علي بن حميد الدين، من أسرة آل القاسم الرسي، وهلك من أهل صنعاء ما يقرب من 40 ألفاً.
ثم كان عام 1948، حيث تعرضت للنهب المنظم الذي قاده إسماعيل بن يحيى حميد الدين، إثر فشل ثورة 48 بعد مقتل الإمام يحيى.
هكذا هي صنعاء تمارس كل طقوس المزاج الهادئ، وتقرر أشياء خطيرة تترك تفاصيلها للقبائل.
كل هذا الحشد من الملوك والدم والنهب، تزاحم في ذاكرتي، فارتكبت خطوة أخرى لأجد نفسي بين الباعة المتجولين والصيارفة.
هنا من باب اليمن بإمكانك شراء سترة مستعملة قادمة من وراء الشمس، أو تشتري مليون دولار. هذا المكان مرصوف بالحجر الجرانيت الأسود منذ أكثر من 100 سنة، كغيره من شوارع صنعاء القديمة. الكل هنا يبيع كل شيء، إنه المنطقة الأولى من "سوق الملح" الذي يمتد شمالاً ليصل إلى قلب المدينة.
وفي هذا الشريط المزدحم تتكرر الوجوه الأجنبية.. سائحون من غرب أوروبا وأمريكا، يشترون كل ما هو قديم؛ حلي، ثياب، صور لصنعاء، ويقومون بالتصوير واستبدال نقودهم لدى الصيارفة، دون حدوث سطو أو سرقة في زحام كهذا، وفي حي قديم يكون أمثاله في البلاد الأخرى مأوى للصوص والصعاليك.
في سوق الملح
أول سوق الملح بعد باب اليمن تجد الدكاكين صغيرة، وتبيع سلعة واحدة تتكرر في أكثر من 10 دكاكين، وأسعار العقار هنا مرتفعة جداً، لأنها منطقة تجارية نشطة للغاية.
وحدات متجانسة تجعل سوق الملح منظماً إلى حد ما، من حيث بيع السلع، فكل مكان مخصص لسلعة معينة أو لمجموعة من السلع المتجانسة، فأولاً التمر، ثم التحف والحلي القديمة، فالمكسرات (الزبيب واللوز)، فالأقمشة... وهكذا.
معظم تجار سوق الملح من أهل صنعاء القديمة، وهم يتميزون عن باقي أهل المدينة بأنهم "أولاد سوق" من حيث إنهم أقل "التزاماً" بتقاليد الكلام والتعامل، لأنهم أكثر اختلاطاً بالآخرين من غيرهم. التاجر هنا يتغدى مبكراً، ويجمع بين صلاتي الظهر والعصر، ويكون قبلها قد اشترى القات، ويأخذ معه الماء المبخر، ويبدأ التخزين. السياح هنا يشترون الكثير من المصنوعات اليدوية والتحف والحلي، وبأسعار خيالية أحياناً، أخبرني أحد تجار هذه السلعة أن 60% من هذه التحف وأدوات الزينة أصبحت شغلاً حديثاً، وليست قديمة.
إلى سمسرة النحاس
أمشي ولا أدري هل أبحث عن صنعاء، أم أبحث عن نفسي. في مدينة كهذه كل شيء يغريك بالشراء، وكل جيب يذكرك بمبادئك العتيقة، فلا تشتري شيئاً آخر غير كروت وصور للمدينة المدللة البخيلة.
وجدت نفسي أمام بناء قديم يتكون من 3 طوابق يزدحم بابه بالسياح (الأجانب طبعاً).. إنها "سمسرة النحاس".
كانت أشهر سمسرة في صنعاء تستقبل الغرباء، وتوفر لهم شيئاً من الدفء في مدينة لا تعرف شيئاً أكثر من البرد والبخل.
في عام 1988، وتحديداً في 19 مارس من هذه السنة، تم افتتاحها بعد إعادة ترميمها، لتصبح مشغلاً تعليمياً وسوقاً لبيع المصنوعات اليدوية. إنها تبيع المصنوعات القديمة للجميع، لكن الأجانب وحدهم يشترون. دكاكين صغيرة على جانب الطابق تطل على ساحة فسيحة، ربما كانت الساحة للحيوانات (الحمير والبغال والخيول)، والدكاكين كانت غرفاً للنوم طبعاً.
تبنى مشروع إعادة الترميم السيد "فون جاردر"، سفير النرويج بصنعاء. وكعادتي غادرت السمسرة، ولم أقتنِ شيئاً. كنت فقط أردد ما قاله أحمد العواضي الشاعر الكبير:
"سمسرة النحاس مدي من الأحلام. حورية من الأحجار والقبعات والخشب المقفى".
"أجمل الأسماء سمسرة النحاس وأجمل الفتيات واجهة المدينة".
كل شيء كبير
غرب سمسرة النحاس تماماً، يجلس الجامع الكبير الذي بني على عدة مراحل. الجامع غريب على غريب مثلي، فهو 4 مستطيلات تلتقي من أطرافها، وبين هذه المستطيلات الأربعة ساحة مفتوحة كبيرة، ومن مستطيل إلى آخر تدخل عبر باب صغير. لم يُبنَ الجناح الشرقي للجامع إلا في عهد الصليحيين، بنته أروى بنت أحمد الصليحي، وكان قبلها على شكل حدوة حصان (أنا لم أرَ الحصان في حياتي حقيقة إلا في التليفزيون وملصقات المؤتمر الشعبي العام أثناء الانتخابات الأخيرة).
الجامع كبير إلى حد ما، والعدد الذي يدخله من الناس كبير، مكتبة كبيرة، ومصاحفها كبيرة، يقرأ بها كبيرو السن، وقليل جداً من الأطفال.
للجامع الكبير عبقه الخاص؛ فهو مدرسة المذاهب التي تعاقبت، سواء المذاهب السنية أو المذهب الهادوي.
أدور في أحياء المدينة، مدينة المذهب والألفة والبخل والأرستقراطية، الأنوف الشامخة المعقوفة.. الجص الجميل والزجاج الملون. مدينة الخصوصية والأسر الكبيرة.. معظم الأغنياء غادروا أسوار المدينة، وبنوا بيوتاً خارجها، وحولوا البيت الكبير إلى فندق، حيث يمكن للسائح أن يدفع الكثير مقابل النوم في التاريخ والجص والأسرار. إنه يعود إلى بلاده ويقول لأول صديق: لقد نمت في أكبر متحف تاريخي في العالم.
عادات خاصة
وهذه المدينة مسكونة بالزعامة، فهي دائماً تصنع الزعماء القادمين من مناطق أخرى، وتدفع الثمن في ما بعد.
حتى في الحارات، العاقل هو عاقل الناس جميعاً.. تجد الرجل ذا البطن الكبيرة، ومشية طلاب كلية الشرطة أثناء التخرج، يعاقب أي طفل يرتكب حماقة أو يشاغب.
هناك احترام وتوقير للكبار من قبل الجميع، وهذا متعارف عليه.. الانتماء أسري بالدرجة الأولى، ثم للشلة، وبعدها الحارة. أما الحزبية فتأتي في المرتبة الأخيرة.
مجموعات محدودة ومجالس معروفة للقات، والحديث في الفقه والشعر والفن، حيث الماء المبخر، والساعة السليمانية التي تقدس الصمت والخلود إلى أحلام القات وكوابيسه.
أهل صنعاء منغلقون على أنفسهم إلى حدٍّ كبير، فلا تنتظر من صنعاني أن يدعوك على وجبة غداء إلا بعد نصف قرن صداقة. ربما يدعوك إلى جلسة قات بعد صداقة 3 سنوات بالطبع.
وهم غير مبذرين، لذلك تجد السلتة تأتي في إناء فخاري تظنه إناء لإطعام العصافير، (هذا ليس دليل بخل، بقدر ما هو دليل تدبير وذوق).
وفيهم حدة الطبع، خاصة كبار السن، والاهتمام بالشعر الغنائي، وبإرضاء نسائهم.
"عرسين ولا ولاد"
مثل صنعاني يقوله الرجل بعد 40 يوماً من طقوس الولادة والاحتفال والمجابرة. يخرج بعدها منهكاً أكثر من بني إسرائيل بعد تيه 40 سنة. كل يومين أو 3 أيام مرحلة من مراحل الاحتفاء بالمولود وسلامة الوالدة. آخرها الحمام، وما أدراك ما الحمام؟ ذهبت في إحدى المرات أبحث عن حمام يريحني من تراكم أتربة نقم على وجهي وذاكرتي.. ظللت ساعات أبحث عنه، والأطفال يكذبون عليّ: "سير من هانا تبسر حانوت كبير خلف من جنبه وبعدا...".. إرشادات تجعلك تقطع مسافات كبيرة، بينما تكون في المكان الذي تبحث عنه.
المهم أنني وجدت الحمام. كان البيض مكسراً على الباب، قلت في نفسي ربما يكون أحدهم قد أحضر معه بيضاً ليسلقه في الماء الساخن، فسقط منه بعضه.
نزلت السلّم الحجري حتى نهايته، خطوتين إلى الأمام، أصوات ولغط نساء وقباقيب، أدركت أن أمامي خطوة واحدة وأدخل التاريخ من أفسق أبوابه. رجعت على وجهي ويديّ ورجليّ، حتى وصلت إلى الباب، فتقافز بعضهم من السيارة (لا أدري أين كانوا عندما دخلت)، وبدأ الشتم، والأيدي تستعد للصفع. حلفت إنني لا أدري أن الحمام قسمان؛ رجالي ونسائي. صرخ أحدهم في وجهي؛ أنت أعمى ما تبسر البيض المكسر؟..
نجوت منهم بأعجوبة.. ولم أقتنع بعدها بأن البيض يكسر بعد المرأة الوالدة التي تدخل الحمام، إبعاداً للجن والحسد، ولكن البيض يكسر حتى لا يخطئ المغفلون أمثالي..!
أنياب الكلاب
هذا المجتمع أحادي، لكنه تراكمي لأكثر من ثقافة وذوق، وحتى سلالة. ومما لاشك فيه أن التحولات أضافت إليهم خبرات ووجوهاً، وسرقت منهم بعض العادات الحميدة والسيئة، وأثرت في التركيبة الاجتماعية، فخسر البعض الكثير من الامتيازات التي كانت تعطى لهم من قبل الأئمة، وربح الكثيرون وظائف وفرص عمل وتجارة.
أثرياء قدامى وجدد خرجوا إلى المدينة الجديدة، ودخل بدلاً عنهم موظفون يبحثون عن إيجار منخفض، وعاشقون من اليمن ومن أوروبا، يبحثون عن التاريخ الشاهق الذي يسكن هذه المباني الأحادية الشاهقة. هذه القصور التي تكررت في هذه المدينة (نفس الواجهات، نفس الأبواب) كل الطيرمان (الطيرمان؛ مكان القيلة والصلف)، وهو أعلى غرفة في البيت، هذا الطيرمان يجعل رأس المبنى مدبباً. تبدو المباني كأنياب الكلاب.
صدق النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراه الله صنعاء من مكانه في الخندق: "رأيت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب".
ورحم الله عثمان بن عفان الذي يقال إنه أمر بهدم قصر غمدان حتى لا يفتن الناس.
كان هذا القصر أكثر من 20 طابقاً. آخر طابق فيه مسقوف بالزجاج، حتى يرى الملك الطيور وهو مستلقٍ في غرفته نهاراً، ويراقب النجوم في الليل.
حاولت دخول هذا القصر الذي لم يعد منه على قيد الحياة سوى أسواره المنيعة.
جزء منه يسمى "بيت الكدم" (الخبز الذي يصرف للجيش)، وجزء كان يسمى "قصر السلاح".
من هذا القصر بدأت الخطوات العملية لفشل ثورة 1948، حيث كانت مؤامرة قادها أحد أبناء الإمام يحيى، فتمكن من السيطرة على القصر بالمال والترهيب.
لم أتمكن من الدخول إلى قلب الأطلال، لأن القصر أصبح معسكراً.
صنعاء كانت مدينتين يفصل بينهما سور.
في الشرق حيث الأحياء الشهيرة: الزمر، الفليحي، الأبهر، خزيمة، وسوق الملح... الخ.
هذا الجانب الشرقي حيث الجامع الكبير وقصر غمدان وسمسرة النحاس.
قاع اليهود
الجانب الآخر من المدينة كان يضم بير العزب، وقاع اليهود. عندما غادر اليهود صنعاء وقاعها العريق، حملوا معهم الكثير من الذهب والفضة التي تراكمت لديهم بفعل احتكارهم للصناعات الحرفية. كان ذلك عامي 48، و49. يقال إن الإمام سمح لهم بأخذ أموالهم، واشترط عليهم تعليم البعض من أبناء صنعاء أسرار مهنتهم.
يتميز قاع اليهود الآن بأشهر مطاعم السلتة الصنعانية، ومبنى وزارة الخارجية.
اهتمام كبير من مراكز الدراسات والجامعات الأوروبية بصنعاء القديمة، ولذلك فهم يتبنون الكثير من أعمال الترميم والتأهيل الحرفي، وبالتحديد الألمان والفرنسيون، فقد أعادوا بناء الكثير من أسوار صنعاء والبيوت التي تهدمت.
كان سور صنعاء الرئيسي قد بناه طغتكين الأيوبي، أخو توران شاه، الذي كان قائداً للحملة الأيوبية إلى اليمن، ومكث في صنعاء من 580 إلى 590هـ.
صنعاء مغلقة بموروثها الديني والتاريخي، وبتكوين أبنائها نفسياً، وكانت تفتح أبوابها في الصباح، وتنسى أن تغلقها مبكراً، فيتسلل العشاق والبائسون واللصوص والصحفيون.
"باب اليمن، باب شعوب، باب الروم، باب السبح، باب الشقاديف"، ربما كانت تسمية الباب الأخير من تراكم أشياء يظنها الفقراء مهمة يسميها الأرستقراطيون شقاديف.
عندما حاولت الخروج بشيء من هذه الملكة الجميلة التي أصبحت كإليزابيث (تملك ولا تحكم)، كنت حزينا أني لم أتمكن من معرفة الكثير من أسرارها.
شيئان جديدان تمكنت من معرفتهما:
1. معرفتي السبب الذي دفع أهل هذه المدينة للإفطار في شهر رمضان بالبقل والحلبة "الحامضة".
2. أسطورة خزيمة، الفتاة اليهودية التي أحبت الشاب الصنعاني المسلم، وعندما حاولا الزواج قام المسلمون بتوبيخ الفتى العاشق، وذبح اليهود خزيمة.
بكاء في المدينة الجديدة
عندما حاولت الكتابة خارج أسوار صنعاء القديمة، كنت كمن يحاول أن يطبق نظرية "آينشتاين"، ويحلم بالسفر عبر الزمن. فكرة واحدة كانت تلح عليّ وأنا أسير في الشوارع التي تسمى مجازاً شوارع صنعاء الجديدة. هذه الفكرة هي أن أصدق ما قاله سفير أمريكي سابق: "أية عاصمة هذه؟ ليس فيها سوى صنعاء القديمة، والباقي مجرد تجمع للبشر والقمامة".
قلت في نفسي بالفعل أيها السفير، لكنك نسيت إضافة شيء هام هو الكآبة.
زحمة وعشوائية وقمامة تعتلي الأرصفة، وبالوعات تتقيأ واقعاً قذراً للغاية، وهذه هي أولى معالم صنعاء! التي تستقبل السائح فور خروجه من مطار صنعاء.
نقول صنعاء الجديدة باعتبار أن كل ما سبق ذكره شيء جديد إلى حد ما.
ورغم العشوائية المتسعة، إلا أن المدينة تزحف ببطء نحو البناء المنظم والحديث في أطرافها؛ حدة، الحي السياسي. وفي الحي الأخير يقطن معظم السفراء والأثرياء والمقيمين في اليمن من غير اليمنيين.
فمن خارج أسوار المدينة القديمة يقطن اليمن بكل تنوعه البشري والثقافي.
ولذلك فكل يفكر كما يريد، ويعربد كما يريد، ويجوع كما أراد له الواقع السفيه.
في صنعاء الجديدة يختلف الناس في كل شيء، ويتفقون في الأجواء الرمضانية، حيث المسجد والتراويح والدموع.
"شارع مجاهد، مسجد هزاع المسوري": ذهبت إلى هذا العنوان بعد إلحاح من رجل أعمال صديق لي. المسجد مزدحم للغاية، والجميع ينتظرون إمام المسجد.
صلاة العشاء ثم التراويح ثم الدعاء، وهنا يبدأ البكاء الجماعي.
بكيت خشوعاً، وبكيت لأنني مواطن يمني شاءت الأقدار السماوية وسوء الحظ، أن يعيش في صنعاء القرن الـ20، وليس في القرن الـ14.
وإضافة إلى الخشوع والشعور بالمواطنة، أظنني بكيت لأنني من برج الحوت.
لم أتمكن من التلويح بيدي لأقول وداعاً صنعاء، لأنني لا أملك أن أغادرها متى شئت، ولأن صنعاء القديمة لا تقبلني ضيفاً، وصنعاء الجديدة لا تكف عن طرح الأسئلة .