الحرب التي يشنّها الأغنياء ليموت فيها الفقراء

 (1)
هي الحرب يا أبي التي قال عنها الفيلسوف الوجودي "سارتر" يشنّها الأغنياء ليموت فيها الفقراء، وهي الحرب ذاتها التي قال عن مأساتها "سوفوكليس" أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريق بأنها تنال من الخبيث بالصدفة، أما الطيب فدائماً ما تنال منه، وهي تلك التي قال عنها "منسيوس" أكثر الفلاسفة شهرة في تاريخ الصين القديم بعد حكيمها العظيم "كونفوشيوس" "الحرب هي أن تلتهم الأرض لحوم البشر".

(2)
نعم هي الحرب يا أبي التي قالوا عنها "عندما تبدأ يفتح الجحيم أبوابه"، وهي نفسها التي قالوا عنها "سوف تنتهي في حال عاد الموتى"، وهي الحرب التي تنتهي كما قال جبران خليل جبران بتصافح القادة، وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد.

(3)
قالها شاعرنا نزار "من رأى السم لا يشقى كمن شربا"، ونحن نقولها لمن رأى فيلماً أو قرأ عن الحرب كتاباً، ليس كمن عاش جحيمها سبع سنوات طوال، وبعد السبع شهدنا ما هو أسوأ وأثقل منها، وفيها بلغ الشر منتهاه.. صدق من قال: "لو شهدت يوما من ايام الحرب لتوسلت إلى الله ألا يريك ثانية منها". وكم هو فظيع أن تكون من دعاتها ومروجوها، وفي هذا المقام يقول "جورج أورويل" في روايته 1984: "كل دعاية الحروب، كل الصراخ، الأكاذيب والكراهية، تأتينا على الدوام من أناس لا يقاتلون!".

(4)
قلنا لهم: إن كانت الحرب من كل بد، فلابد أن نجوع ونموت معاً، وأن نكون معاً مغرماً ومغنماً، أما نحن نجوع ونموت، فيما هم يحصدون مغانمها، ويجبون من الجبايات ما فحش منها على حساب دم وكدح شعبنا، ويستولون على حقوقنا، وينكّلون بمن يطلب الحساب، فهذه حربكم لا حرب شعبنا الذي اكرهتموه بالحديد والنار والمخالب الناشبة على البطون أن يكون محاطبها ووقودها إلى أجل لم تسموه.

(5)
حروب في حروب اكتوى وأشتوى فيها شعبنا.. عاش نارها ورعبها وكل فجاجات بشاعاتها التي تكشف وجوه مشعليها، والمستفيدين منها، والراغبين في استمرارها.. كسب تجار الحروب الباخسون لدمنا الذي اهدروه، وأرضنا التي اقتطعوها، ومقدرات شعبنا التي استولوا عليها، ومستقبل أبناءنا الذي اختطفوه.

(6)
نحن فقراء يا أبي أو هذا لسان حال الكادحين.. ازددنا في الحرب فقراً وجوعاً، وبعد الحرب بات حالنا أضيقُ وأوجع.. نموت يا أبي قهراً وكمدا.. لا حقوق ولا مدّخر.. لا رجاء ولا أمل.. بتنا نعلك جوعنا وجروحنا.. كل الوعود تبخرت، وأشدّها قطع الأمل.. "طلاق يالراتب طلاق".. إفقار وجوع.. نزيف وإنهاك أستمر، وذكريات تمطرنا بأحزانها، لينطبق علينا ما قاله الشاعر ميخائيل نعيمة عن الحرب:

"أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
سوى أشْبَاح مَوْتَانا".

(7)
كثيرون الذين أكلتهم الحروب، وكثيرون لم يجدوا بعدها إلا ما هو كارثي وفادح.. حصد تجار الحروب ووكلائها مغانم وثروة وسلطة، وحصدنا معاناة تشتد، وفقر يتسع.. بات للشياطين عالم ودنيا وبتنا حديث المقابر.. ما كانوا يجمعونه في عام باتوا يجمعونه في يوم.. وكانت المقولة: "يوم الحصاد بالنسبة للشيطان".

(8)
في الحرب حصد التافهون من دمنا مالاً وعقاراً وثروة.. شهرة ونجومية زائفة.. عاشوا وأعتاشوا على دمنا.. دم شعبنا المهدور.. حروب لا يريدونها أن تنتهي.. توحشوا بعد مسكنة وتقية.. نحصدُ الموت والجوع، ويحصدون من دمنا ما لذ وطاب.. من يطالب منّا بحقه خوّنوه وصهينوه.. باتت حقوقنا وأقوتنا ورواتبنا التي نطالب بها "خيانة للوطن"، ليس فيها عذر أو شفاعة.. بجاحة ما بعدها بجاحة، وحياء منعدم لم يشهد له العالم مثيل.. شيء لا يصدق، ولم يكن يخطر يوماً على بال.