عن اليمن والصين واشياء اخرى

اليمنيون شعب فقير للغاية*،  تنجرح احاسيسه عندما يسمع عبارة "نحن شعب فقير" ، ويردد تلقائياً :" نحن لسنا فقراء، لكن مواردنا غير مستغلة". وتلك العبارة خصوصاً ايقونة اليمني المفضلة لتبرير وضعه اليومي. في المقابل لا يبالي عندما يسمع ان اليمن مصنفه كبلد متخلف، وبكل المعايير والمؤشرات التي تصدرها الامم المتحدة.

كل همه الحصول على وجبة  غداء  رخيصة سريعة ولا تشغل باله ان كانت فقيرة غذائيا ام لا، كما لا يبالي بهندامه ونظافة الاماكن العامة ونظامها، والمهم ان ينجح في الحصول على "علاقي قات جيد" .

في العادة يسخر اليمني من اشياء كثيرة

ذات مساء قريب كنا في مطعم صيني، قال صديق يمني: الصينيون شعب ملحد وكسول  ويؤمنون بالخرافات.

أساليب طنانة في التقليل من الآخر، وإعتقادات ويقين عجيب وراسخ بالأفضلية الدينية ( تصورات افضلية دينية تدور في رأس معظم المتدينين ومن مختلف الاديان).

قلت له عند الله ما يضيع، ولا اعرف إن فهم ما اعنيه.

على الطاولة كانت النادلة اللطيفة ترص الاطباق بطريقة مذهلة، ترتيب انيق يمكنك ان ترى من خلاله دقة وثقة وراحة بال الانسان الصيني، مع ابتسامة مهذبة  خجلةتماماً، كإبتسامة "هيلين" التي وصفها هوميروس.

شرائح لحوم متنوعة وكثيرة معلقة، في كل مرة  القي  نظرة عليها اتمنى لو تكن شرائح لحم الحصان،  والذي لم اتذوقه الى اليوم.

الأمر هو كالتالي: هناك شعوب مضيئة، وشعوب مريضة تهنجم وتتراكم جثث قتلاها في الطرقات، واخبار صحفها الرديئة تتحدث عن سرقة مخازن السلاح ورموزها السياسية فاسدة خاوية ومثيرة للقرف.

كنت اتمنى لو اتقن اللغة الصينية.

موعد تناول الطعام الصيني لم يحن بعد، لا زلنا نتابع ترتيب  الصحون والملاعق بدقة وتناغم.

حسناً.. سنبدأ بحساء صيني لذيذ مصنوع من  قواقع البحر.

كان مطلوب جداً  في الصين ان تنهض مجدداً وتخرج من حالة فقرها وضعفها الطويلوماوتسي تونغ، قام بالمهمة، فعقب ثورة  تقدمية في  الأربعينات  بدات الصين الحديثة تمضي الى الامام، علمنة الدولة والشعب،  حزب الشعب، جيش الشعب، الثورة الثقافية، تجربة دينج شياو بينج، أمور غير عادية، لقد تم قمع كل مظاهر اخرى معادية للتقدمية، او حتى تشكل عائق امام مستقبل الصين الحديثة وتحديثها

ترافق تجربة الصين الكثير من النقودات،  وحولها الكثير من الادانات المتعلقة بالحريات، وسجل حقوقي سيء... لكن الصينيون  لا يعتذرون،  ويعوضون فشلهم في مجال الحريات بمعدلات نمو إقتصادية مذهلة اوصلتهم  الى ثاني كبرى اقتصاديات العالم،  وفي ظرف مدة وجيزة.

شكل المنطقة بأكملها يتغير، بل العالم يتغير مع نهضة العملاق الصيني، يقول الصينيون اهم رد على النقد الموجه لسجلهم في مجال حقوق الانسان، نجاحهم الإقتصادي، بمعنى أن هناك ما يحققونه.

شيء آخر غير عادي بالمرة: تفرض الحكومة الصينية توجهات معادية للتدين، وتقريبا ٩٢ ٪من الشعب الصيني  حر المعتقد ( لايؤمن بأي دين) ووفق استطلاع جالوب هي النسبة الاعلى في العالم. إذاً  لا مكان للدين في الصين الحديثة، "العلم" فقط هو كل شيء هناك، وتقريباً ثمة اجماع صيني- وحتى مراكز الابحاث- تعتبر هذا الامر احد أسباب نجاح الصين الحديثة، وان كان هناك ما يؤرقهم فهو بعض المشكلات العرقية المحدودة

هذه المرة الثالثة  التي اتناول فيها وجبة صينية رائعة، في وسط كوالا لمبور، وفي اجمل احيائها ليلاً وهو الحي الصيني ( يشبه شارع العدانية في صنعاء ، والفارق الوحيد بينهما هو الفارق بين الصين واليمن).

كل الصينيات حسناوات، وكل صيني هو انسان  مهذب ورائع بشكل جم ومذهل

وقبل آلاف السنين  كان موتزو وكونفشيوس  وفلاسفة آخرون يناقشون العادات والُمثل والقيم الصينية، إنتقد "موتزو " المبالغة في  كثير من العادات ورأى انها قاسية بحق الإنسان، أيام الحداد التي تمتد شهور، وكذا طاعة الوالدين الواجبة،  وكثير من المُثل والقيم  والاخلاقيات والسلوكيات البشرية كلها صينية الأصل - وسبقت تعاليم الاديان بقرون طويلة

فمثلاً تقديس الأسرة الى حد الموت على مذهب احترام كبار السن مثال لأهم المذاهب الصينية وانجازاتها الاخلاقية الفلسفية الكبرى.

كانت شكوى الآباء بأبنائهم غير البررة عقوبتها الاعدام،  وهذا جزء من ما إنتقده موتزو وكونفشيوس.

من "موتزو" الى  "ماو" تاريخ صيني عظيم للغاية، وهو بالإضافة للتاريخ الهندي والفارسي يشكل تاريخ الشرق العريق .

مؤخراً الصينيون اعلنوا عن صاروخهم "رياح الشرقوهو ابعد مدى لصاروخ عابر للقارات في العالم.

"فتش عن الحقيقة  في تفاصيل الواقع" حكمة صينية  لطالما آمنت بها.

---

* صعوبة التفريق بين الشعب والبلد، ناهيك عن غياب فلسفة تهتم بتوزيع عادل للثروة