محصّلة صراع الأقوياء تنتهي دومًا على حساب الضعفاء!

 قاربت ميزانية وزارة الدفاع الأميركية في العام الماضي (حوالي 800 مليار دولار) نسبة ثلث الميزانية العامّة الأميركية، ولا تعادلها في ذلك أي دولة بالعالم، عِلمًا أيضًا أنّ وزراة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تتعامل مع حوالي مليوني شخص من الموظّفين العسكريين والمدنيين وجنود الاحتياط.

وتضمّنت ميزانية (البنتاغون) في العام الماضي العديد من الخطط لـ”ردع” روسيا والصين، بما فيها تخصيص 300 مليون دولار لدعم أوكرانيا وقواتها المسلّحة، و4 مليارات لدعم “المبادرة الدفاعية في أوروبا” و150 مليون دولار لتمويل “التعاون الأمني” مع دول البلطيق.

ومن بين “إجراءات الردع” أيضًا تخصيص 7.1 مليار دولار لتمويل “مبادرة الردع في المحيط الهادئ” الرامية إلى ردع الصين ودعم تايوان.

طبعًا، ذلك كلّه سبق الغزو الروسي لأوكرانيا في نهاية شهر فبراير من العام الماضي، ثمّ ما ورد في “إستراتيجية الأمن القومي الأميركي” التي أعلنها “البيت الأبيض” في شهر أكتوبر الماضي، والتي فيها تأكيد على الخطرين الروسي والصيني على الأمن الأميركي.

ويبدو بعد عامٍ على اشتعال الحرب في أوكرانيا أنّ المراهنة الأميركية هي على إطالة الأزمة الأوكرانية وعلى استنزاف القوّات الروسية فيها وعلى بقاء الأسباب الداعية لعزلة روسيا ومقاطعتها. فإدارة بايدن استفادت وتستفيد من تداعيات الأزمة الأوكرانية حيث أعادت واشنطن الآن اللحمة بين ضفّتيْ الأطلسي بعد التصدّع الذي حصل في ظلّ إدارة ترامب، كما أعادت الاعتبار لدور “حلف الناتو” في أوروبا. أيضًا، في المجال الخارجي، أرادت واشنطن توجيه رسائل عديدة للعملاق الصيني في قضية “تايوان” والدول الحليفة للولايات المتّحدة في شرق آسيا.

لكنّ الصراع الذي يشهده العالم مؤخّرًا بين الأقطاب الدوليين هو صراع مصالح ونفوذ وليس صراعًا أيديولوجيًّا، كما أنّه ليس بحربٍ باردة جديدة يجب أن تنتهي عسكريًّا بهزيمة أحد الطرفين، فواشنطن وموسكو حرصتا معًا على عدم امتداد الحرب الأوكرانية إلى دول “الناتو”. لذلك لا يصحّ عربيًّا المراهنة على أي طرف خارجي واحد في تحقيق المصالح العربية بأبعادها الوطنية والقومية. فالمصالح الوطنية والقومية العربية تتطلّب أوّلًا الاعتماد على الذات العربية، وتحسين واقع الحال العربي في أجزائه الوطنية وفي كلّيته العربية، واتّباع سياسة: “نصادق من يصاقنا ونعادي من يعادينا”.

وقد تساءلت، وأنا أتابع أخبار أوكرانيا طيلة العام الماضي، كيف تريد الدول الغربية، والولايات المتّحدة تحديدًا، أن تنظر شعوب الدول العربية إلى هذا التطوّر الخطير الذي يشهده العالم الآن؟! أي هل اعتمادًا على الشرعية الدولية التي ترفض الغزو العسكري من أي دولة لدولةٍ أخرى! لكن أين كانت هذه الشرعية الدولية حينما قامت الولايات المتّحدة وبريطانيا بغزو العراق! أو حينما غزت واحتلّت إسرائيل جنوب لبنان في العام 1978 ثمّ اجتاحته واحتلّت عاصمته في العام 1982، ولم تتمّ الإدانة الدولية لإسرائيل ولا فرض أي عقوبات دولية عليها!. ثمّ ماذا فعلت هذه الشرعية الدولية منذ العام 1948 من مناصرة للشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه وجرى بحقّه الكثير من التشريد والقتل والمجازر!. فلماذا هناك “غزو حلال” و”غزو حرام”؟! فكل أنواع الغزو العسكري لدولٍ أخرى هي مدانة مهما كانت المبرّرات والأعذار لها.

ولماذا كان العالم في مطلع حقبة الستّينات من القرن الماضي على شفير حرب عالمية بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بسبب وضع موسكو لصواريخ في جزيرة كوبا المجاورة للحدود الأميركية، وحيث انتهت هذه الأزمة الدولية الخطيرة بسحب هذه الصواريخ الروسية وباستمرار تواجد القاعدة العسكرية الأميركية “غوانتنامو” على الأراضي الكوبية رغم وجود نظام شيوعي فيها، ويستمرّ الآن لأكثر من 60 عامًا!. فلماذا كان من حقّ واشنطن الاعتراض على صواريخ روسية على حدودها ولا يكون لموسكو الحقّ الآن بالاعتراض على نشر الصواريخ و”الناتو” على حدودها!.

العالم كان وسيبقى بحالٍ مثال الغابة، القوي يأكل الضعيف، والغلبة للأقوى في صراع أسود الغابة! دون إدراك بأنّ محصّلة “صراع الأقوياء” تنتهي دومًا على حساب الضعفاء. ألم يكن ذلك مبرّر قيام “كتلة عدم الانحياز والحياد الإيجابي” في حقبة “الحرب الباردة” بين حلفيْ “الناتو” و”وارسو”، حينما تصارع قطبا العالم آنذاك في ساحات “دول العالم الثالث” ولم تحصل مواجهات مباشرة بينهما طيلة نصف قرنٍ من الزمن، وتحت مظلّة “اتّفاقية يالطا” التي وضعت الخطوط الحمراء لكلّ قطبٍ وجرى احترامها من الطرفين رغم حدّة الخلافات والتناقضات بينهما في مختلف الصعد!.

لن يكون هناك منتصر ومنهزم في أزمة أوكرانيا، ولن يحدث انتصار عسكري حاسم لقطبٍ على قطبٍ آخر ولا هو بالأمر المطلوب أو المرغوب من موسكو أو واشنطن. لكن هل سيتحمّل العالم أزمة مفتوحة زمنيًّا تنعكس ويلاتٍ اقتصادية وتجارية على الغرب والشرق معًا؟ أشكّ بذلك في عالمٍ هو منهًكٌ اقتصاديًّا حاليًّا بأشكال مختلفة، وبما في ذلك حال العديد من الدول الأوروبية.

ربما سيكون المخرج الوحيد من هذه الأزمة هو حصول وساطة أوروبية/صينية مشتركة تحفظ “ماء وجه” واشنطن وموسكو وتضع لبنات لنظام دولي جديد يحفظ مصالح الأقطاب ويحترم “خطوطهم الحمراء”. أمّا أوكرانيا فممكنٌ التوافق على صيغةٍ دستورية كونفدرالية جديدة لها بشكلٍ شبيه بحالة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: “شرقية” مع موسكو و”غربية” مع واشنطن! والله أعلم.

*مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
Email: Sobhi@alhewar.com