الثّورُ مُنْهَكٌ والسّكاكينُ لامعة!

في مصارعة الثيران ثمّة مؤامرة مُعْلَنَةٌ يتم تنفيذُها أمام الجميع قبل أن تبدأ اللعبةُ القاتلة. إنها أشبه بفترة انتقالية تُهيّئُ الثورَ بإرهاقه وإنهاكِه, وتُكسِّرُ قُرونَ عِنادِه , وتحدُّ مِنْ جُمُوحِ طِرَادِه , وتهدُّ مَتْنَ قُوّتِهِ وزِنادِه ,.. كي يصبح مجرّد نعجةٍ سائمة , لِجَوْلةٍ قريبةٍ قادمة!

والحكايةُ تبدأ فور دخول الثورِ الجامح الثائر إلى الحَلَبَة , ليجد أمامه حصاناً مُدرّعاً بالحديد , يَعْتَليْهِ فارسٌ يحملُ حَرْبةً هائلةً , ومهمّتهُ أن يُنْهِكَ الثورَ , ويُدميه بالطّعن المُوغِلِ في سَنامِهِ الضخم , وتِرْقُوَتِهِ النافرة .. يحدث ذلك قبل أن تبدأ اللعبة! وفي كل مرة حين يهجم الثور يتوكأ الفارس على حربته بكل ثِقَلِه على سنام الثور غارزاً الحربة صوب قلبه! وهكذا لمدة ساعة! وما إن يُكملُ الفارسُ الحديديُّ مُهمّتهُ الدمويّة القاسية الجبانة حتى يغادر الساحةَ بحصانهِ وحربتهِ البشعة وسط تصفيق الجمهور , وليدخل إثرهُ فارسٌ آخر كأنّهُ صورةٌ من سابقهِ إلاّ أنهُ ذو لباسٍ أبيض موشّى بالذهب ,.. يدخلُ مختالاً كَمَلِك , حاملاً الرُّقعةَ الحمراءَ في يَد , والسّكاكينَ الطويلةَ اللامعةَ في اليد الأخرى! بينما يقف الثّورُ المنهَكُ مغتسلاً بدمائه وحيرته , وبالكاد تحمله قوائمه! والغريب أن تشتعل أكُفُّ النخبةِ الصّاخبةِ بالتصفيق للفارس الذي يتبخترُ متراقصاً أمام ثورٍ مُدَمّى .. نِصْفِ ميّت!

وتبدأ اللعبةُ الجهنميةُ غير المتكافئة , بين الثور المُثْخَنِ بالجراح , وسكاكين الفارس اللامعة ,.. وبالطبع , فإن النتيجة تصبح من قبيل تحصيل الحاصل! فالثورُ المسكين يظلُّ يلاحق الفارس بلا جدوى , يلاحقُ رقعةَ أحلامه القانية الحمراء المتوهّجة في يَدِ الفارس الذي يُلوِّحُ لَهُ بِها مُخادِعاً , مُغرياً متراقصاً , مُتنقّلاً .. مقترباً .. مبتعداً! حتى إنّه في لحظة غرور يُوْلي الثورَ ظهرهُ غيرَ خائفٍ منه , أو حتى ناظرٍ إليه! ولتنفجر النُّخبةُ المبهورةُ تصفيقاً , وتصفيراً , وتقف مُهلّلةً مفتونةً بالفارس السّاطع بنياشينهِ المُذهبّة وسكاكينهِ اللامعة!.. وحينها , يكون الثورُ قَدْ كفَّ عن الحركة إعياءً ويأساً! والأرجح أنّهُ لم يعد يرى شيئاً!.. فلم يعد يُفرّق بين خِرقَةِ الأحلام الحمراء , وسكاكين الفارس البيضاء!.. بين سياجِ الحَلَبَة وهياج النُّخبة المستمتعة!.. بين السّكاكين تَنْغَرِزُ في لَحْمِه , وصيحات الشماتة تَنْغَرِزُ في أذنه!.. عيناهُ غائمتان مكسورتان , وَ رُوْحُهُ دائخةٌ هامدة بعد أن أصبح كلُّ شيئ أمامهُ يدورُ ويدورْ ويتراقص .. الميدان , والفرسان , والاصوات والالوان والوجوه والسكاكين .. الأرض والسماء .. كل شيئ يدور دائخاً ويبعث على الغثيان!.. وفجأةً , يشعرُ الثورُ أنّ الظلام يغمُرُ كلّ شيئ .. السّكاكينُ فقط تلمعُ كأنيابٍ جائعة , بينما الصّخَبُ يَرُجّ المكان , والفوضى تصبح هي النظام!

يقف الثور لاهثاً , مستسلماً , غائماً بين الحياة والموت ، وينظر إلى خيال الفارس المتبختر بقامتهِ المُلَوِّحِ بِرُقعته الحمراء حائراً خائراً. يتوقف الثور أمام الفارس المغمور بالذهب لاهثاً دامياً راجياً ، وبلسانِ حالٍ يقول .. أرجوك .. ألَم تشفِ غليلك بعد أيها الزائف المخادع وقد أثخنتني بكل هذه الجراح وأغرقتني بكل هذه الدماء؟ أعرفُ ما تريد! .. تريد أن تقصِمَ رأسي وتقسِمَ مَتْنِي وتهضِمَ لحمي!

لكنّ سيفَكَ أكبرُ منك ، و رأسي قُدَّ من حجر ، ومَتْنِي هندوانُ يمانٍ ، ولحمي مُرٌّ ومريرٌ!

.....

وما تزال المعركة مستمرة ، بل هي في ذروتها! ربما تحدث معجزة .. مَن يدري؟