
مهرجانات الشعر العربي: هل ما زالت الحاجة إليها؟
عندما بويع أحمد شوقي بإمارة الشعر عام 1927، خاطب وفود الدول العربية التي جاءته مبايعةً له، بقوله: يا عُكاظاً تألّقَ الشعر فيه من فلسطينه إلى بغدانه افتقدنا الحجـــاز فيه، فلم نعثُرْ على قُسِّه ولا سحبانه
كانت عكاظ أحد الأسواق الثلاثة الكبرى التي اشتهرت في شبه الجزيرة العربية أيام الجاهلية، وارتبطت ذاكرته بخيمة الشعر، حيث كان شعراء كلّ قبيلة يعرضون ما عندهم من شعر وأدب، فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة والتناشد. وقد زخرت كتب تاريخ الأدب بأخبار سوق عكاظ وأشعاره إلى أن دمره الخوارج عام 129 للهجرة. ظلت عكاظ عبر التاريخ رمزاً لكل تجمع شعري عربي، ورمزا لكلّ ما يرد فيه من ازدحام وعراك وتدافع بالنسب والموهبة، وفي العصر الحديث تَجدّد العهد به في صورة أخرى، مدنية وأكثر تأثيرا في مجرى الثقافة العربية الحديثة. ستصير المهرجانات الشعرية بمثابة فعاليات ثقافية تتضمن قراءات شعرية، حيث يتعاقب الشعراء على المنبر ينشدون قصائدهم على نحو يكرس تقاليدها الشفاهيّة، وتتخللها ندوات نقدية يكون لها امتداد في صفحات الجرائد والمجلات، وورشات عمل، وعروضا فنية مرتبطة بالشعر.
باتت هذه المهرجانات تهدف إلى تعزيز الحضور الثقافي لفنّ العربية الأول، وإطلاق منصة للشعراء للتعبير عن هواجسهم وأعمالهم، وتوسيع نطاق جمهور الشعر لتلقّيه والتفاعل مع موضوعاته وقضاياه. لكن فكرة المهرجان لم تكن على صورة واحدة (مجالس، صالونات، منتديات، مؤتمرات)، إما بسبب ظروف الحداثة الشعرية التي قامت على تغيير نمط تلقّي القصيدة في صورتها السماعيّة وفق أبنيتها الإيقاعية، أو بسبب الظروف التاريخية التي كانت تمرّ منها، وأملت على الشعراء الالتزامَ بقضايا الأمة. فمن جهة أولى، غيرت هذه الحداثة طرق كتابة القصيدة وإلقائها على نحو يتجاوز «شفويّتها» أو يعيد بناءها من جديد، وبالتالي مسّ عقيدة السماع أو «الأذن الموسيقية» عند جمهور الشعر. ومن جهة ثانية، لم ينفصل تحديث الشعراء للشكل الشعري عن الاهتمام بالمضمون السياسي والاجتماعي الرافض، إذ دعوا إلى الالتزام بـ«المبادئ الوطنية والقومية والإنسانية» وبـ«تحرير الأوطان من الاستعمار والتخلف الحضاري» وبـ«الدعوة إلى نهضتها ووحدتها ورفاه أبنائها»، لاسيما أن كثيرا من هؤلاء الشعراء ربطتهم بمؤسسات سياسية وأيديولوجية واجتماعية وإعلامية، علاقاتُ انتماء أو تعاطف كانت صالحة للطرفين معا. وتحت ضغط الواقع السياسي ومناخ الهزيمة، أو ما كان يمارسه النقد الأيديولوجي من تأثير في محافل المتعلمين، تحول المهرجان الشعري؛ مثل مهرجان المربد في العراق، إلى حدث سياسي وثقافي كبير ومؤثر. فالكثير من القصائد التي ألقيت فيه تَلقّفها الناس كما لو كانت منشورات سياسية أو «نبوءات» تاريخية، فسارت بذكرها الرُّكبان في المشرق والمغرب، وعقدت آصرةً جماهيرية سحريّة بينها وبين قرّائها الذين أدمنت ذائقتهم التعامل مع أصحابها بوصفهم الصوت السياسي للثورة العربية «المجهضة».
ثم أتى حين من الدهر، بعد أن انطفأت مشاعل الشعراء «المتنبّئين» الكبار ورموزهم الحالمة، لم يعد المهرجان يحمل «وعدا» بشيء، بل أمسى أشبه بـ»حلقة مغلقة» تستقطب الشعراء أنفسهم يقرؤون لبعضهم بعضا ويلتقطون صورة جماعية في ختام الحفل. وساهمت قصيدة النثر نفسها لكونها خليطا بين مغامرة البحث واللاشكل والعدميّة والجنون والهذيان، أو بسبب عدائها للمنبرية، في حالة الاغتراب الذي دخله اللقاء بالشعر، وفي خذلان مُؤسّسته.
صحيح أنّ بعض المهرجانات المعروفة زال بزوال سياقه، أو الحاجة إليه، أو أخذ يترنح لغياب الدعم المؤسسي اللازم. وبعضها لا يزال يُعقد، لكن تأثيره قلّ بصورة واضحة، حتى صار استعراضيا وضربا من المجاملة والترف في غياب السجال النقدي الذي كان في العادة يصاحب فقراته، ويخلق التواصل بين الأجيال وتبادل خبراتهم الإبداعية بقدر ما يكتشف أصواتا جديدة يمكن أن تغني الحركة الشعرية راهنا. وبعضها الآخر الذي استجدّ في شكل مسابقات تلفزيونية، أملته الدعوة إلى بعث القصيدة العمودية، كما لو كانت أشبه بـ»كفّارة» عن سيرورة الكدح الجمالي الذي بذله المحدثون في سبيل تجديد القصيدة العربية طوال قرن. وفي المقابل، تسعى دائرة الثقافة في الشارقة، على سبيل المثال، إلى توسيع دائرة الاهتمام بالشعر العربي وجمالياته حتى في غير مراكزه المعروفة؛ لاسيما في بعض الدول الافريقية (تشاد، النيجر، مالي، السنغال)، لكن أين نحن من ابتداع طرق وقنوات ومنصّات جديدة من المهرجان لتصريف القول الشعري وتوصيله إلى جمهور «مفترض»، بحيث تتمرد القصائد على الوضع القائم الذي هي فيه، إلى المنتزهات والمدارس ودور الاستشفاء والرعاية والأماكن العامة، تصحبها فنون العرض والموسيقى والتشكيل، كما يحدث في بعض مهرجانات العالم في إسبانيا وكولومبيا وكوستاريكا وكندا وهولندا، وفي «سيت» الفرنسية حيث يقدم شعراء المتوسط من لغاتهم المتنوعة لتعزيز الحوار الثقافي والتواصل بين الشعوب؛ فالشعر ليس ملكية خاصة أو حكرا على دائرة «مجاملات» ضيقة، بل هو مِلْكٌ لجميع الناس على اختلاف مذاهبهم وأذواقهم !
طلائع شفشاون
في المغرب ثمة أكثر من مهرجان للشعر، لكن أكثرها عراقة وتأثيرا في تاريخ الثقافة المغربية؛ هو المهرجان الوطني للشعر الحديث في مدينة شفشاون عام 1965، الذي انعقدت منه إلى الآن خمسٌ وثلاثون دورة تطرح قضية للتداول النقدي، أو تحتفي بإحدى التجارب الرائدة لشعراء من أمثال محمد الميموني ومحمد السرغيني وعبد الرفيع الجواهري. شعراء من أجيال ورؤى وحساسيات مختلفة مرّوا من هذا المهرجان وتركوا أصواتهم فيه، مثلما حملوا معهم جزءا من تاريخ المدينة وزرقتها الفاتنة. تأسس المهرجان على يد جمعية أصدقاء المعتمد بن عباد، التي ضمت خيرة شعراء المغرب؛ وفي طليعتهم عبد الكريم الطبال، ومحمد الميموني، وأحمد الجوماري، وأحمد صبري، وعبد القادر العافية وغيرهم. يقول محمد الميموني: «إن مسألة تأسيس فكرة المهرجان جاءت في فترة كانت تعرف طموحا شبابيا لا يعرف حدودا، ولا يعرف خوفا، وكانت الظروف السياسية الرسمية كلّها ضد أن نفعل شيئا من هذا المستوى، كان المغرب إذاك يغلي بطموح الشباب بعد عهد الاستقلال، حيث كان جيلنا يحس بأن عهدا جديدا قد حل، وعلى المغرب أن يتقدم ويتطور». ورغم حصار السلطة وانعدام الإمكانات المادية، فقد لقي المهرجان، «استجابة منقطعة النظير من شعراء المغرب من أقصاه إلى أقصاه، بل تنافس الشعراء في أن يحضروا على حسابهم الخاص بوسائلهم المتواضعة».
ويذكر عبد الكريم الطبال أن فكرة المهرجان نشأت في أذهانهم بعد أن زار نزار قباني مدينة شفشاون في ضيافة الجمعية، وقرأ بعض قصائده في جمعٍ من الطلبة. كانت الزيارة حدثا ثقافيّا، وبعده راهنوا على خلق وعي شعري حداثي يقطع مع شعر المناسبات، الذي كان مزدهرا وقتذاك ويلقى ولاء من السلطة، وتكوين كتلة متراصّة من المبدعين الشعراء خاصة، وذلك للالتفاف حول الشعر حتى يكون صوته أقوى مما كان واقعا، بل يصير صوتا للتجريب والتجديد، ومناصرة قوى اليسار، التي كانت قد بدأت في رفع صوتها من أجل التغيير. «كان المهرجان من الأوّل، يقول الطبال، دعوةً إلى المغامرة، ودعوةً إلى مواجهة السائد الذي كان ضدّ التحول وضد التجديد، وسبق الواقع الماثل إلى الواقع المثال». كانت الجمعية حريصةً على حضور الشعراء الذين يُمثِّلون الطليعة من جيل الستينيات والسبعينيات تحديدا (أحمد المجاطي، محمد الحبيب الفرقاني، محمد الميموني، أحمد الجوماري، أحمد صبري، محمد السرغيني، عبد الكريم الطبال، مليكة العاصمي، محمد بنطلحة، عبد الله راجع، محمد بنيس)، حتى أمسى منبر المهرجان «ترمومترا» لمعرفة تطور الحركة الشعرية في المغرب.
رغم تقهقر بنيات الاستقبال وغياب الدعم، ساهمت جمعية أصدقاء المعتمد، تحت تأثير شعرائها المؤسسين، أو بفضل تضحياتهم، في مواكبة نشاط الشعراء وتجذير الوعي بالممارسة الشعرية الحديثة، عبر دورات المهرجان الخمس التي عقدتها بين عامي 1965 و1969، وناصرت منذ بيانها الأول مواقف الشعراء التي تتصف بالالتزام، وما يعيشونه من أوضاع تعوق تطوير نتاجهم الشعري ونشره، قبل أن يتوقّف المهرجان بين عامي 1970 و1983 لأسباب حزبية وأيديولوجية صرف، ثم يعود ويبعث في جسد الشعرية المغربية روحا جديدة، وهو يترنح بين مدّ وجزر بسبب صراع الأجندات السياسية، وشح الموارد، أو غياب الدعم المؤسسي اللازم كما حدث هذا العام، وأثار استياء قطاع واسع من شعراء المغرب ومثقفيه، ما دفع الجمعية إلى إرجاء الدورة الحالية، وأدانت في بيانها للرأي العام ما سمته «صمت وتجاهل الجهات المعنية، ما يجعلها مسؤولة أمام التزاماتها وتعاقداتها تجاه ذاكرة المدينة الثقافية التي يحتل فيها مهرجان الشعر مكانة معتبرة».
مهرجانات «عن بعد»
في ظلّ انحسار الشعر واغتراب الأجيال الجديدة عنه، ومن أجل تجاوز مشكلة بنيات الدعم والاستقبال التقليدية، التي كانت تعوق إيصال صوته إلى جمهور الناس، يمكن أن يستعيد هذا الفن الأصيل دوره وحيويّته عبر ابتداع مهرجانات ومنتديات «عن بعد»، لا تكون بديلًا عن الأولى بقدر ما تغنيها وتسد مسدّها؛ وذلك من خلال تثمين تقنيات الوسائط التكنولوجية ومنصّاتها التفاعلية، التي بإمكانها اليوم أن توسع دائرة تفاعل الجمهور مع الشعر وجغرافيته المعهودة، وتوسع نطاق نشره بأساليب مبتكرة داخل الفضاء الرقمي،
بل قد يتعدى الأمر إلى استعادة شعراء راحلين يحيون مهرجانات حية و»افتراضية» بأصواتهم الأصلية، عبر تقنية «الاستنساخ الصوتي»، كما يحدث في عالم الغناء والموسيقى وغيرهما. فالشعر يجب ـ بلا تردد أو خوف – أن يدخل الزمن الرقمي ويغنم من ثمار الثورة التكنولوجية الجديدة لصالحه، وإلا ستزداد غربته مع الوقت ويصير نسياً منسيّاً في أدراج المتحف الكبير.
عبداللطيف الوراري