علي الوردي الذي يعاند النسيان
لو دخلت محل عطور صغير في الكاظمية في عشرينيات القرن الماضي، ربما رأيت مراهقاً نحيفاً يقف خلف الكاونتر، أنفه مدفون في كتاب بينما ينتظر الزبائن دورهم. ذلك الصبي كان علي الوردي.
كان من المفترض أن يتعلم حرفة كما تريد عائلته، لكنه لم يستطع التوقف عن القراءة. في النهاية، طرده صاحب المحل ليس لأن «الصانع» كان غبياً أو كسولاً، بل بسبب حبه المفرط للكتب.
قد يبدو هذا المشهد كوميدياً، لكنه يحتوي على بذرة الرجل الذي سيصبح أشهر عالم اجتماع في العراق.
ولد الوردي عام 1913 في مدينة الكاظمية، شمال بغداد، في عائلة متدينة ومتواضعة يرجع اسمها إلى سلف كان يقطر ماء الورد.
أخرجه والده من المدرسة وأرسله ليتعلم حرفة. كان على ذلك المراهق أن يتنقل بين مهنتي العطور والصيادلة، لكن شغفه الحقيقي كان في عالم الكتب:
كان يختبئ خلف الرفوف ويقرأ حتى يكتشف كل صاحب عمل أن المتجر أصبح مكتبة خاصة فيرسله بعيداً.
وفي النهاية، تمرد بشكل أكثر هدوءاً، وعاد إلى التعليم من خلال دروس مسائية، واستعاد السنوات الضائعة وتخرج من بين أفضل الطلاب في المملكة العراقية.
فتح هذا النجاح أبواباً كانت تبدو في ذلك الوقت ضرباً من الخيال. أخذته منحة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث تعرف على العلوم الاجتماعية الحديثة، ثم إلى جامعة تكساس في أوستن، حيث أكمل الماجستير والدكتوراه عام 1950 بأطروحة عن ابن خلدون.
عندما عاد إلى بغداد، انضم إلى كلية الآداب كمحاضر في علم الاجتماع. يتذكر الطلاب رجلاً نحيفاً ذا روح دعابة جافة كان يطرح أسئلة مزعجة ويحول حوادث صغيرة مثل شجار في حافلة أو شائعة في المقهى، إلى أمثلة على كيفية عمل المجتمع فعلياً.
مع مرور الوقت، ساهم في ترسيخ علم الاجتماع كتخصص معترف به، ويوصف الآن على نطاق واسع بأنه رائد مدرسة اجتماعية عراقية وربما عربية.
ما جعل الوردي مميزاً على نحو فريد ليس فقط ما درسه، بل في طريقة كتابته المضللة. كان يعرف النظريات الغربية في وقته معرفة جيدة، حيث قرأ فرويد ودوركهايم وماكس فيبر وغيرهم إلى جانب ابن خلدون، لكنه اختار لغة الناس العاديين.
في كتب مثل شخصية الفرد العراقي، ودراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ووعاظ السلاطين، ومهزلة العقل البشري، واللمحات الاجتماعية متعددة المجلدات لتاريخ العراق الحديث، فضل الأمثال والنكات والقصص القصيرة على الإحصاء والمصطلحات التقنية.
واصلت أعماله الأخرى، هذا المزيج من الوصول والجدية. وبسبب هذا الأسلوب، اعتبره البعض كاتباً «مشهوراً» وليس باحثاً جاداً، وتوهموا سهولة تفنيد وجهات نظره حتى لغير المختصين.
كان الوردي يريد من العراقيين العاديين أن يفهموا القوى التي تشكل حياتهم، وكان يعلم أن المصطلحات المجردة ستصعّب عليهم المهمة، لذا كان يحول الأسئلة الصعبة إلى حكايات بسيطة. فتحت سطح الفكاهة السطحية،
كان يحلل النسيج الاجتماعي. في قلب عمله يكمن سؤال بسيط لكنه يثير القلق: لماذا يبدو المجتمع العراقي ممزقاً كثيراً بين النقيضين؟
للإجابة على ذلك، عاد إلى تمييز ابن خلدون بين البداوة (الحياة القبلية) والحضارة (الحياة الحضرية). بخصوص مجتمعه، جادل الوردي بأن هذين العالمين متراكبان.
قد يحمل نفس الفرد قيم القبيلة: الشرف، والشجاعة، والثأر، والانتقام.
وفي الوقت نفسه، يجبر على العيش وفقاً لقواعد المدينة الحديثة: الانضباط، البيروقراطية، وأحياناً النفاق المهذب.
والنتيجة، كما قال، هي شخصية «منقسمة» أو «مترددة»: فالناس يعظون بمجموعة من القيم ويمارسون مجموعة أخرى ليس بنوايا شريرة، بل لأنهم يجذبون في اتجاهين متعاكسين بسبب شروط التاريخ والجغرافيا.
هنا بالضبط، في هذه المنطقة المخادعة يظهر منتقدوه. يشتكي بعضهم من أن الحديث عن «شخصية عراقية منقسمة» يجعل الجميع بمنطقة واحدة ويتجاهل الفروق الطبقية، والمناطقية، والطائفية.
يجادل آخرون، خاصة الماركسيين، بأنه أهمل الاستعمار والاستغلال الاقتصادي لصالح علم النفس والثقافة.
غضب المتزمتون من رجال الدين من كتابه «وعاظ السلاطين»، الذي يفضح الشراكة الطويلة بين الطغاة والرجال الذين يباركونهم من المنبر.
لم يعجب القوميون إصراره على نمط عراقي محدد من البداوة والحضارة، وفضلوا الحديث عن شخصية عربية موحدة. في كثير من الأحيان، بدا وكأن كل معسكر في الحياة العامة العراقية لديه خلاف معه.
ومع ذلك، تكشف اعتراضاتهم أيضاً ما كان يحاول فعله. لم يدّع الوردي قط أنه يقدم الصورة النهائية للشخصية العراقية؛ بل اقترح فرضية جريئة ودعوة مفتوحة إلى النقاش، لكن هذا بالضبط سبب دخولها اللغة اليومية.
انتقلت عبارة «الشخصية الازدواجية» من كتبه إلى المقاهي وجلسات السمر وحتى داخل سيارات الأجرة، لأن العديد من العراقيين تعرفوا على أنفسهم فيها، حتى وهم يعترضون على التفاصيل.
والاتهام بأنه تجاهل السياسة والاقتصاد يتجاهل الساعات الطويلة التي قضاها في اللمحات الاجتماعية يتابع التيارات الاجتماعية والنفسية الخفية لتاريخ العراق الحديث، من الاحتلال البريطاني إلى الانقلابات والثورات في القرن العشرين.
كانت جريمته الحقيقية، في نظر المتزمتين لمعتقداتهم مختلفة: رفض تسليم علم الاجتماع لأي حزب، سواء كان قومياً أو ماركسياً أو دينياً.
استقلاليته الذهنية كانت مكلفة شخصياً بالنسبة له؛ ففي العقود التي تأرجح فيها العراق بين الملكية والجمهورية والقومية العربية والشيوعية وحكم البعث، وقف معظم المثقفين خلف هذه الأيديولوجية أو تلك.
لم يكن الوردي يفعل ذلك. بالنسبة له، كان يجب أن يبقى علم الاجتماع حراً إذا كان لوصف المجتمع بصدق. جلبت عليه تلك الحرية رقابة وتشكيكاً دائمين، وحظر السفر في فترات معينة، وسقفاً لترقياته الأكاديمية.
الفكاهة كما يراها، كانت أكثر من مجرد خدعة أسلوبية؛ وكانت أيضاً درعاً واقياً من نقمة الآخرين. في بلد قد يكون فيه النقد الصريح للحكام أو رجال الدين أمراً خطيراً، كان يغلف هجماته الحادة بسخرية ويسمح للقراء باستنتاجاتهم الخاصة.
بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من وفاته في عام 1995، لا تزال كتب الوردي تعاد طباعتها وتناقش ويتنازع حولها. يواصل الباحثون في علم النفس والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الاجتماع التوجه إلى مؤلفاته لفهم العراق، وبشكل أوسع، العالم العربي.
أهميته ليست فقط لأنه كان الأول، رغم أنه كان بالفعل رائداً في علم الاجتماع العراقي والعربي، بل لأنه أظهر أنه من الممكن بناء علم اجتماعي متجذر في التجربة المحلية، لكنه يبقى في حوار مع النظرية العالمية.
لقراء اليوم، وخاصة لجيلنا والأجيال التالية، يقدم علي الوردي درسين دائمين: الأول هو الشجاعة الفكرية؛ الاستعداد لوصف المجتمع كما يعتقده، وليس كما ترغب الأحزاب أو الطوائف.
والثاني هو الأسلوب؛ أي معرفة أن الأفكار العميقة لا يجب أن تغلف بلغة ثقيلة، بل يمكن سردها كقصص ومزينة بالنكات، ومع ذلك فإنها تنفذ إلى العقول.
ربما هذه هي أفضل طريقة لتذكره: ليس ك «أب علم الاجتماع» البعيد فحسب، بل كصبي عنيد في محل العطور الذي رفض ترك كتابه جانباً، وانتهى به الأمر بتعليم أبناء بلد بأكمله كيف يقرأون أنفسهم والعالم من حولهم، بغض النظر عن موافقتهم على وجهات نظره من عدمها.
إن قراءة علي الوردي ليست ذات صرامة أكاديمية تعتمد الأرقام والإحصاءات، وإنما هو باحث «ثقافي» تختلط في دراساته الأنثربولوجيا مع السيسيولوجيا مع التأريخ، مع أنه يرفض وصفه بالمؤرخ، وهو محق في هذا.
دائماً يؤكد أن مصادره هي الحياة العامة للناس: المقاهي، المجالس، الاجتماعات العامة. وهذا هو الجانب الذي يمنحه سمة الأنثربولوجي، وهو ما درج عليه علماء المعايشة الاجتماعية، مثل مالينوفسكي وشترواس وغوديليه وغيرهم.
فالناس عنده ليسوا ذرات أو جزيئات فيزيائية، يحصرون بجداول وأرقام، إنهم بشر يتحركون داخل ثقافة هي الأخرى متحركة.
هذا هو علي الوردي الذي نسيء فهمه على الدوام؛ لكنه سيبقى السوسيولوجي أو «المثقف» الوحيد إن صح المقال، الذي عرفنا وميزنا وتعقب مصادر فعلنا وانفعالنا، سواء قبلنا ذلك أم رفضناه، لا يمكننا تخطيه إلا من خلاله هو وحده.
شهد الراوي