"مهرجان العسل" في شبوة… حكاية تبدأ برحيل وتنتهي بفخر
في محافظة شبوة الواقعة في وسط اليمن، بدأ العم محمد الحاج بن لكسر يومه الأخير من دون أن يدري، ففي صبيحة يوم بارد نسبياً وصل بائع العسل الذي يقارب الـ90 سنة إلى الصالة الرئيسة للمهرجان للمشاركة في أول مهرجان عسل، بخطوات ثقيلة وبطيئة مشاها نحو مربعه المخصص، لكنه كان سعيداً جداً بتنظيم الحدث،
فالعم محمد من عشاق العسل والنحل منذ صغره، ومن أقدم من اشتغلوا في تربية النحل وتجارة العسل اليمني، مستفيداً من غزارة مراعي النحل في مسقط رأسه وادي عمقين.
أتقن جمع العسل وإدارته من التنظيف إلى التخزين والتسويق، ثم التحق لاحقاً بعدد من التعاونيات الاستهلاكية داخل المحافظة، قبل أن يفتتح محله قرب "جولة العسل" ويواصل بيع العسل محلياً وإلى دول الخليج العربي.
لكن مشاركته في هذه التظاهرة الاقتصادية والإعلامية الكبيرة كانت آخر أيام حياته، إذ فارق الحياة في اليوم الثالث والأخير من المهرجان، مما أثار حزناً واسعاً بين المشاركين.
وقد نعت إدارة المهرجان الأسبوع الماضي الرجل الذي وصفته بأنه أكبر المشاركين سناً وصاحب الخبرة الطويلة في شؤون النحل والعسل.
مهرجان العسل
ومن هذه الحكاية التي ألقت بظلالها على الحدث برز مهرجان العسل في شبوة كأول مهرجان يمني مخصص لهذا المنتج، نظمته المحافظة على مدى ثلاثة أيام متتالية بمشاركة واسعة من النحالين والمتخصصين والمهتمين.
وشهد الافتتاح حضوراً رسمياً من قيادة الحكومة المحلية ووزارة الزراعة وقادة المجتمع المدني والتجاري وضيوف من خارج المحافظة.
وقال أمين عام الغرفة التجارية والصناعية في المحافظة مهدي باصهيب إن الإقبال الكبير طوال أيام المهرجان عكس المكانة التي يحظى بها العسل في شبوة بجودته وخصائصه المميزة وارتباطه بتاريخ المحافظة الحضاري القديم، خصوصاً في مواقع ممالك حضرموت وقطبان وأوسان.
وأعلن باصهيب عن تلقي الغرفة التجارية دعوة رسمية من الحكومة الصينية للمشاركة في معرض دولي للعسل في مدينة شنغهاي بعد نجاح المهرجان، مؤكداً استعداد الغرفة لدعم المنتجين المحليين وفتح أسواق جديدة.
وفي مقابل حكاية العم محمد الأليمة برحيله خلال أيام المهرجان، كانت الفرحة كبيرة بوجود ومشاركة ابن المحافظة النحال عبدالله بايوسف، الذي حصد جائزة ذهبية في مسابقة باريس الدولية للعسل من بين 288 نوعاً من أعسال العالم بمشاركة 28 دولة،
وقد امتدح المحافظ عوض العولقي النحال بايوسف لفوزه بالجائزة، متمنياً أن تكون دافعاً لنحالي المحافظة إلى تحقيق نجاحات مماثلة.
حكاية عشق
يحكي بايوسف لـ"اندبندنت عربية" أن مشواره مع النحل بدأ منذ طفولته مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عندما عمل مع والده في قرية يثوف في مديرية جردان، إحدى عزل شبوة، واكتسب من والده خبرة العمل بالنحل والعسل،
وقد ساعدته تلك الخبرات لاحقاً على معرفة شؤون النحل والعسل وإتقانها.
ومع بداية وحدة اليمن مطلع تسعينيات القرن الماضي بدأ بايوسف برفقة شقيقه طالب التنقل بالنحل في مناطق يمنية عدة شمالاً وجنوباً بحثاً عن المراعي الطبيعية ومواسم الأمطار،
ومن أهمها مناطق في محافظات إب وتعز وأبين (أحور)، إضافة إلى مناطق أخرى ضمن محافظته شبوة، بخاصة المناطق القريبة من رمال صحراء السبعتين، وساعده هذا التنقل على ازدهار خلايا النحل وتكاثرها، إذ وصلت إلى 400 خلية بعدما كانت أقل من ذلك بكثير.
كانت الحرب اليمنية المستمرة التي اندلعت في مارس (آذار) 2015 نقطة تدهور اقتصادي ومعيشي للمواطن، ودفعت نحالي اليمن ضريبة باهظة، فقد قل نقل خلايا النحل بين المحافظات، وتدهورت العملة الوطنية، مما أدى إلى تراجع القيمة الشرائية وانخفاض مبيعات العسل بصورة كبيرة.
ويقول بايوسف عن تلك الفترة "قبل الحرب كنت أعمل معلماً وموظفاً في التربية والتعليم، إذ أحمل شهادة جامعية من كلية التربية والآداب، وبعد الحرب تضررت كثيراً كغيري من أبناء البلاد، إذ تراجعت قيمة الريال أمام العملات الأجنبية كثيراً،
إلا أن إعادة عملية تصدير العسل إلى الخارج لاحقاً ساعدتني كثيراً على تحسين ظروف المعيشة، وإكمال دراستي الجامعية، وأعمل الآن معيداً في جامعة شبوة، وأحضر لرسالة الدكتوراه في السودان، وإجمالاً أصبح النحل اليوم مصدر رزق لكثير من الأسر اليمنية".
وعن سبب تفوقه ونجاحه وتميزه في تربية النحل وتجارة العسل، أجاب "الحقيقة أن هذه المهنة ليست سهلة، فعملية تربية النحل فيها كثير من التعقيد والصعوبات،
وقد استفدت من والدي، وكان من أكثر أهل المنطقة خبرة ودراية بالنحل، تعلمت منه أن النحل والعسل فن وذوق ومسؤولية وأمانة وصدق. النحل هو شغف وحب وعشق، وإذا لم تحب مهنتك فلن تحقق نجاحاً فيها، هذه قاعدة أساسية لنجاح أي عمل".
ومن المهم الإشارة إلى أن ما شجع بايوسف على النجاح هو انتماؤه إلى وادي جردان، أحد أودية مشرق اليمن الخصبة التي تكثر فيها أشجار السدر التي يتغذى النحل على ثمارها، وتحظى تربية النحل فيه بعناية فائقة،
ذلك فإن سقوط الأمطار بغزارة طوال العام وتوفر التربة الخصبة في الوادي أسهما في نمو أشجار السدر وتكاثرها، فأصبحت المنطقة من أكثر مناطق اليمن إنتاجاً للعسل.
اعتبر نائب محافظ شبوة عبدربه هشله حصول النحال عبدالله بايوسف على الميدالية الذهبية دليلاً على جودة العسل الشبواني عالمياً، مؤكداً أن المحافظة تعد من أهم مناطق إنتاج العسل المعروف بخصائصه الفريدة.
وقال إن مهرجان العسل شكل تجمعاً مهماً جمع المتخصصين والمستهلكين والمهتمين، وأسهم في لفت الأنظار المحلية والدولية إلى سلعة اقتصادية تتصدر بها شبوة محافظات اليمن،
وأضاف أن المهرجان أتاح فرصة للتعريف بالعسل الشبواني وفتح المجال أمام النحالين والمستثمرين للتبادل التسويقي والمعرفي، وتعزيز مكانة المحافظة كمركز رئيس لإنتاج العسل الطبيعي.
واستعرض هشله مجموعة من المقترحات الهادفة إلى تعزيز تربية النحل وتجارة العسل، من بينها استكمال مختبر العسل الممول من السلطة المحلية للحفاظ على جودة المنتج ومنع نسبه إلى محافظات أخرى،
ووضع خطة إعلامية للترويج لشهرة العسل الشبواني، وتوفير التدريب لإدخال التقنيات الحديثة في التربية والإنتاج،
كذلك دعا إلى توعية النحالين المتنقلين بالحفاظ على البيئة، وتشجيع زراعة أشجار السدر في الوديان المناسبة، وتمويل مشروع لمكافحة الأشجار الضارة بإنتاج العسل،
إضافة إلى البحث عن برامج لدعم وتأهيل الشباب للعمل في هذا المجال، والمشاركة في الفعاليات الداخلية والخارجية المتعلقة بالعسل.
أنهار من عسل مصفى
ووصف المدير العام للمركز الوطني اليمني لإنتاج العسل عبدالعزيز زعبل إقامة مهرجان العسل في شبوة بأنها خطوة إيجابية وبداية خير للمحافظة ولليمن في هذا القطاع، مشيداً بالمستوى الذي ظهر به المهرجان،
وقال إن "العسل يكاد يكون في مهمة سفير نوايا حسنة، من شبوة إلى كل العالم، فهو أنهار من عسل مصفى، ويمتلك خصائص علاجية وغذائية ممتازة".
وكشف زعبل عن وجود "تنافس محموم" منذ أعوام بين شبوة وحضرموت على صدارة إنتاج العسل كماً ونوعاً، مؤكداً أن شبوة تتصدر بربع إنتاج اليمن، وأوضح أن عدد النحالين في البلاد يبلغ نحو 100 ألف نحال، تستحوذ شبوة على 37 في المئة منهم،
فيما يبلغ عدد خلايا النحل 300 ألف خلية تقليدية، مع ندرة الخلايا الحديثة، وهو ما يجعل العسل الشبواني خالياً من المبيدات والمواد الكيماوية ويحافظ على نقاوته الطبيعية.
جمال شنيتر
صحافي ومراسل تلفزيوني