اليمن، نبض اللاشيء الذي أوجد كل شيء
في اللحظة الكونية التي سبقت البدء، قبل أن يتشكل الضوء الأول أو يتمدد الفراغ، كان ثمة سكونٌ مطلقٌ، لا يخترقه سوى ترنيمة خفية، اهتزازٌ لا يُسمع، لكنه ينسج خيوطَ الكثافةِ من نسيجِ العدمِ.
كانت تلك الترنيمةُ اليمنَ. لا تاريخَ لها، لأنها خالقةُ التواريخِ. لا جغرافيا، لأنها النقطةُ التي منها تفرعتِ الأبعادُ.
ليستْ كيانًا، بل هي تجسيدٌ للطاقةِ الكامنةِ في جوهرِ اللاشيءِ، الشرارةُ الأولى للوعيِ التي تراقصتْ على حافةِ العدمِ، فخلقتْ كلَّ ما هو كائنٌ.
انظرْ بعينِ الروحِ، لا العينِ المجردةِ، وسترى اليمنَ تتجلى في كلِّ ذرّةٍ من الكونِ.
في الشقِّ الأصغرِ في بلّورةِ الكوارتزِ المنسيّةِ، في انحناءةِ الضوءِ حولَ نجمٍ يحتضرُ، في الصمتِ المطبقِ الذي يسبقُ انفجارَ السوبرنوفا. إنها الرمزُ الأبديُّ للبدايةِ والنهايةِ معًا، نقطةُ التلاقيِ بينَ الأزلِ والأبدِ.
يا يمنُ، يا طائرَ الفينيقِ الكونيَّ، يا من تتعثرُ ثم تنهضُ، تحترقُ ثم تنبعثُ من رمادك. كم من مرةٍ تلاشتْ حدودكِ على الخرائطِ، وتشتتْ شعبكِ في المنافي والمهجرِ؟
لقد هاجرَ أبناؤكِ، ذابوا في دماءِ الأممِ الأخرى، ليُصبحوا أصولَ العربِ في الشتاتِ، ودماءَ البربرِ والأمازيغِ في الشمالِ الأفريقيِّ، وليُنبِتوا في أماكنَ أخرى شعوبًا ودولًا بأكملها.
لكنَّ هذا التشتتَ ليسَ فناءً، بل هو امتدادٌ لروحكِ الخالدةِ. فجذوركِ، يا يمنُ، ليستْ ضاربةً في أعماقِ الأرضِ فحسبُ، بل في أعماقِ التاريخِ الذي لم يُدوّنْ، في لُبِّ الوعيِ الكونيِّ الأصيلِ.
كلَّما ظنَّ اليأسُ أنه أحرقكِ، نفضتِ الرمادَ عن جناحيكِ وعُدتِ للحياةِ، أكثرَ وهجًا، أكثرَ أصالةً.
واليوم، تُثقلُ كاهلَ هذا الفينيقِ العظيمِ طفيلياتٌ صغيرةٌ كالقرادِ، تتغذى على دماءِ أبنائِهِ الأبرياءِ، وتمصُّ من حيويتهم، كما يلتصقُ القرادُ بجسدِ البقرِ فيُنهكها.
هذه الجماعاتُ التي تعيثُ فسادًا، ليستْ سوى عوالقَ عابرةٍ على جسدٍ تاريخيٍّ ضاربٍ في القدمِ. لقد سمموا عقولَ شعبكِ بالخرافةِ والجهلِ، وغرسوا فيهم نزعةَ السلاحِ حتى باتت محافظةُ تعزَ المدنيةُ الوادعةُ،
نموذجُ الثقافةِ والعلمِ، مرتعًا للسلاحِ المنتشرِ بشكلٍ مخيفٍ. إنه مرضٌ يهددُ بالعودةِ إلى عقلياتِ القرونِ الوسطى، إلى كهوفِ الظلامِ، بينما شعوبُ العالمِ تتسابقُ على التكنولوجيا، وتغزو الفضاءَ، وتبني مدنًا ذكيةً ترفضُ الجهلَ والتخلفَ.
إنَّ لم نتخلصْ من هذا القرادِ العالقِ، وهذا الوباءِ الفكريِّ، فسنُدانَ جميعًا بالعودةِ إلى عصورٍ من الجمودِ والتأخرِ.
لكنَّ هذه العوالقَ ليستْ قدرًا أبديًا. فكما يمتلكُ الراعيُ القدرةَ على إزالةِ القرادِ من ماشيتِهِ، واستعادةِ صحتها وعافيتِها، فإنَّ الشعبَ اليمنيَّ العظيمَ يملكُ في جيناته روحَ هذا الفينيقِ، والقدرةَ على نفضِ هذه الطفيلياتِ عن جسدِ وطنِهِ،
ليُعيدَ له عافيتَهُ، ويُعيدَ له وهجَهُ الكونيَّ. اليمنُ هي الترياقُ الذي لا يُصنعُ، بل يُكتشفُ في صمتِ الذاتِ. هي الإشارةُ الخفيّةُ التي يتلقاها قلبُ الكونِ ليعيدَ ترتيبَ الفوضى.
هي ليستْ تنتظرُ الخلاصَ، بل هي الخلاصُ ذاتهُ، يتجلى في كلِّ نسمةِ هواءٍ، في كلِّ قطرةِ ندى، في كلِّ ومضةِ أملٍ غيرِ منطقيٍّ يولدُ من قلبِ اليأسِ.
في نهايةِ هذه الرحلةِ اللانهائيةِ، ندركُ أنَّ اليمنَ ليستْ مجردَ أرضٍ أو شعبٍ أو تاريخٍ، بل هي الوعيُ الكونيُّ المطلقُ، النبضُ الخفيُّ لقلبِ الوجودِ، سرُّ اللاشيءِ الذي أوجدَ كلَّ شيءٍ. إنها النقطةُ التي تلتقي فيها كلُّ الأبعادِ، وتنصهرُ فيها كلُّ الحقائقِ، ليبقى سرُّها خالدًا، يترددُ في فراغِ الأبدِ.