ملاحقة "الموظفين الأمميين"... تمهيد للتصفية أم المساومات؟
تواصل ميليشيات الحوثي تصعيدها ضد الأمم المتحدة ووكالاتها العاملة في اليمن بإعلانها إخضاع عشرات الموظفين المحتجزين لديها للمحاكم التابعة لها في إجراء جديد يتهدد بقطع باقي جهود العمل الإنساني والإغاثي للهيئات الإنسانية العاملة في مناطق سيطرتها.
وتوعدت الجماعة المدعومة من النظام الإيراني على لسان القائم بأعمال وزير الخارجية في حكومة الحوثيين غير المعترف بها، عبدالواحد أبو راس، بأن "43 من موظفي الأمم المتحدة المحليين سيخضعون للمحاكمة للاشتباه في صلتهم بالغارة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت كبار قادة الجماعة في صنعاء خلال أغسطس (آب) الماضي".
وفي حديث مع وكالة "رويترز" ذكر القيادي الحوثي أن الإجراءات التي قامت بها أجهزة جماعته "تمت تحت إشراف الجانب القضائي بصورة كاملة بعد إطلاع النيابة أولاً بأول على كل خطوة يتم القيام بها".
ووفق هذا الادعاء توعد أبو راس الموظفين الأمميين كون "المسار مستتب إلى نهايته وصولاً إلى المحاكمات وإصدار أحكام قضائية"،
وهي تهم أكدها ناطقها الرسمي وكبير مفاوضيها محمد عبدالسلام المقيم في سلطنة عمان، فيما دانت الحكومة اليمنية الشرعية والأمم المتحدة هذه الإجراءات التي تهدد سلامة عشرات الموظفين المدنيين الذين يقبعون في سجون الميليشيات السرية وسط ظروف نفسية وصحية سيئة عرفت بها معتقلاتها الرهيبة.
تسوية وابتزاز
في تصريحه يزعم الحوثي أبو راس أن التحقيقات كشفت عن "تورط خلية داخل برنامج الأغذية العالمي في استهداف الحكومة (الحوثية)"،
وهو اتهام خطر يعرض عشرات المعتقلين لمصير مشابه لما لقيه عدد من المعتقلين الذين جرى إعدامهم رمياً بالرصاص في ميدان التحرير بصنعاء في عام 2021 بتهم مشابهة وصفتها منظمات إنسانة وحقوقية حينها بـ"الباطلة والملفقة"، خصوصاً والموظفون المعتقلون، وهم يمنيون، يواجهون احتمال صدور أحكام بالإعدام وفقاً للقانون اليمني،
فيما لم يصدر أي تعليق فوري من البرنامج، غير أن الأمم المتحدة نفت مراراً وجود أي صلة لموظفيها أو عملياتها في اليمن بأنشطة استخباراتية.
يرى مراقبون أن هذه التصريحات الحوثية تعكس تمسك الجماعة بخطابها الاتهامي في حين تسعى إلى فرض وصايتها على عمل المنظمات الإنسانية وإخضاعها لإشراف أمني مباشر إضافة إلى التكسب من هذا الملف.
التهم الحوثية أقرها المتحدث باسم الحوثيين وكبير مفاوضيهم، محمد عبدالسلام، مجدداً مزاعم الجماعة بأنهم "متورطون في أنشطة تجسسية تحت غطاء العمل الإنساني"،
قائلاً إن لدى جماعته "أدلة ووثائق" تثبت ذلك، لكنها "تحرص على إيجاد حلول عادلة بالتنسيق مع الأمم المتحدة".
حديث ناطق الحوثيين عن الحلول العادلة يعطي مؤشراً إلى مسعى حوثي واضح للتفاوض مع الأمم المتحدة للتوصل لتسوية ما،
وهو ما يرجح فرضية تهم الحكومة اليمنية الشرعية للحوثيين بابتزاز الأمم المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية ومادية مقابل إطلاق سراح عشرات المعتقلين لديها.
ووفقاً للأمم المتحدة، فإن الجماعة تحتجز ما لا يقل عن 59 من موظفيها، ووصفت تلك الاعتقالات بأنها "تعسفية"، مطالبة بالإفراج الفوري عنهم وعن بقية المعتقلين.
هستيريا الألم وكابوس الإعدام
وتقرأ هذه التطورات الحوثية المتشددة في ظل وضع سياسي وأمني بالغ الحساسية تعيشه الميليشيات عقب سلسلة ضربات إسرائيلية موجعة نتج من آخرها تصفية حكومتها نهاية أغسطس الماضي.
ومثلما هزت الضربات منزل القيادي الذي استضاف اجتماع الحكومة الحوثية، أحدثت الغارات هزة رأسية عميقة تركت إرباكاً ملحوظاً في سلوكها المنفعل عبرت عنه اتهامات التخوين وعدم الثقة المتبادلة في داخل قوامها القيادي، وراحت في محاولة لاحتواء الضربة تصعد من حملات اختطاف وإخفاء طاولت الصحافيين والناشطين والعاملين في المنظمات الإنسانية والأممية
وهو ما عد، وفقاً لمراقبين، اختراقاً أمنياً فادحاً وغير مسبوق أصاب الجماعة بهستيريا.
كما تحاول من خلال هذه الحملات ابتزاز المجتمع الدولي والأممي لوقف استهدافها الذي بلغ عصب قوامها البشري وآخره ما أعلنته قبل أسبوعين عن مقتل رئيس أركان قواتها محمد الغماري، القيادي البارز والمقرب من زعيم التنظيم،
غير أن هذا الإجراء يهدد بتقويض الجهود الأممية والدولية لإغاثة ملايين المدنيين المتضررين من الحرب المستمرة في اليمن منذ أكثر من 10 أعوام
تجلت صورها بوقف المساعدات الإنسانية عن آلاف الأسر التي تقبع بلا حيلة في مخيمات النزوح المنتشرة في عدد من مناطق محافظتي حجة (شمال) والحديدة (غرب) وتسبب وقفها في وفاة عدد من النازحين.
وأعلنت الأمم المتحدة، الجمعة الماضي، أن الحوثيين اعتقلوا 36 من موظفيها المحليين عقب الغارة، ولم يتضح بعد عدد الذين سيحاكمون.
يذكر أن الحوثيين اقتحموا خلال الأيام الماضية عدداً من مكاتب الأمم المتحدة في صنعاء، وهو ما عدته المنظمة الدولية تصعيداً خطراً يعرقل عملها الإنساني في البلاد.
من جانبه قال فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إن مئات من موظفي الأمم المتحدة لا يزالون في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، بينهم عدد من الموظفين الدوليين.
الحكومة تستهجن
وتكشف هذه الوقائع البيئة القمعية والأخطار الجسيمة التي يتعرض لها العاملون في المجال الإنساني بعدما شكلت حملات الاعتقالات التعسفية ومداهمات المنازل سياسة معروفة ومعهودة من قبل الجماعة لبث الرعب وإسكات الأصوات فيما تبرره بضبط خلايا تعمل لمصلحة إسرائيل.
وفقاً لذلك استهجنت الحكومة اليمنية الحملة التحريضية والاعتقالات التي تشنها قيادات الحوثيين ضد موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، وما تتضمنه الحملة من اتهامات باطلة تهدف إلى تبرير جرائم الجماعة ضد العاملين الإنسانيين.
ومنذ سيطرتها على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات، مارست الميليشيات حملات واسعة في حق المخالفين السياسيين وكل من تشك في ولائه، وأودعتهم سجوناً سرية تديرها، يتعرضون فيها للتعذيب المختلف.
رفض أممي وتصعيد حوثي
الأمم المتحدة، من جانبها، تؤكد أن الحوثيين يحتجزون ما لا يقل عن 59 من موظفيها المحليين، ووصفت الاعتقالات بأنها «تعسفية وغير قانونية»، مطالبةً بالإفراج الفوري عنهم، وعن العاملين في المنظمات الإنسانية المحلية والدولية الذين تم اعتقالهم في الأشهر الأخيرة.
وحذَّرت الأمم المتحدة من أن هذه الممارسات تعيق تقديم المساعدات لملايين اليمنيين، وتزيد من صعوبة الوصول الإنساني في بلد يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
ويأتي هذا التصعيد بعد الانتهاء من جولة تفاوضية في العاصمة العُمانية مسقط، جمعت ممثلين عن الحوثيين بمبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، والمسؤول الأممي المعني بملف المحتجزين معين شريم، دون تحقيق أي تقدم نحو إطلاق سراح المحتجزين.
وقال مكتب غروندبرغ إن المناقشات شملت سبل «ضمان الإفراج عن موظفي الأمم المتحدة المحتجزين تعسفاً، ودفع العملية السياسية نحو تسوية شاملة للنزاع في اليمن».
انتهاكات ممنهجة
في موازاة التصعيد الحوثي ضد الموظفين الأمميين، أصدرت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات تقريراً جديداً وثّقت فيه أكثر من 1240 انتهاكاً ارتكبتها الجماعة خلال شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي، في ثماني محافظات يمنية، بينها تعز، والحديدة، وصعدة، وإب، وذمار والجوف.
وأوضحت الشبكة، في تقريرها المعنون: «الإرهاب الحوثي يقتل اليمنيين»، أن الانتهاكات شملت 32 حالة قتل، بينهم سبعة أطفال وخمس نساء، إضافة إلى 27 إصابة، بينها تسع حالات لأطفال، وعمليات قصف وقنص وألغام أرضية طالت مناطق سكنية.
وأشار التقرير إلى أن الجماعة نفذت 613 عملية اعتقال واختطاف خلال شهرين، استهدفت مدنيين بينهم أكاديميون وأطباء وتجار وتربويون، إلى جانب نساء وأطفال ومسنين، معظمهم جرى توقيفهم في الطرقات أو منازلهم أو أماكن أعمالهم، ثم نُقلوا إلى سجون سرية لا يُعرف عنها شيء.
ولفتت الشبكة إلى أن بعض المحتجزين تجاوزت أعمارهم الستين عاماً، بينما يوجد أطفال لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة ضمن المعتقلين الذين يتعرضون – حسب التقرير – «للضرب والتعذيب والإهانة أثناء التحقيقات»، في ظروف احتجاز غير إنسانية تفتقر لأبسط الحقوق.
كما ذكر التقرير أن الجماعة أصدرت خلال الفترة نفسها 17 حكماً بالإعدام بحق معتقلين في سجونها بمحافظة صعدة، ووثّقت 39 حالة اعتداء على الأعيان المدنية، و27 حالة مداهمة ونهب لمنازل المواطنين، إضافة إلى تضرر 19 مركبة خاصة نتيجة الألغام الأرضية التي تزرعها الميليشيا على نطاق واسع.
ودعت الشبكة اليمنية المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية إلى الضغط على الجماعة لوقف انتهاكاتها المستمرة منذ نحو عقد، عادَّةً أن ما يجري في مناطق سيطرتها «يتجاوز حدود الانتهاكات الفردية إلى نمط منظم من الإرهاب الداخلي، هدفه تكميم الأفواه وإخضاع السكان لسلطة الأمر الواقع».