الزمان: عدوّ الإنسان أم صديقه؟

 "أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني

ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ"

المتنبي

**

تاريخ للزمان

حرر كولن ويلسون، صاحب "اللامنتمي"، كتاباً لمجموعة مؤلفين بعنوان "فكرة الزمان عبر التاريخ"، صدر بترجمة عربية عن "سلسلة عالم المعرفة" في الكويت، يحاول أن يرصد تاريخاً للزمن أو الحس الزماني الذي يرجع إلى الحضارات البدائية.

يبدأ الاكتشاف على النحو التالي: توصل إنسان نياندرتال (نحو 50 ألف عام قبل الميلاد) إلى دفن موتاه، الأمر الذي يعني أنه كان يفكر في نوعٍ من الوجود المتصل لموتاه. وكانت ضرورة الحياة المقبلة (طعام، أدوات، سلاح) توضع إلى جوار الجسد عند الدفن ابتداءً من العصر الحجري القديم (نحو 35 ألف عام قبل الميلاد).

وسجلت الذاكرة الجماعية الكوارث والحروب، واستخدمت أحجار المغليث (بدأت نحو 1900 ق. م) كأداة حاسبة متقدمة للزمن. كما دُوَّن على حجر بالرمو من مصر (2500 سنة ق. م) تسجيل منتظم لعهود الفراعنة وفيضانات النيل.

ومع ذلك، فإنّ فكرتي الزمان والتاريخ ليستا أصيلتين في فطرة الإنسان، فالأطفال الرضع يعيشون في الحاضر وحده، وأوضح عالم النفس جان بياجيه كيف يتعلم الطفل الوعي بالتزامن والتعاقب. كما أنّ الأفكار عن الزمان ليست موحدة، فلكل من اللغات والحضارات طرائقها في تصويره.

الزمان الإنساني

لم يكن لأغلبية المجتمعات أي سبب لاستخدام نوع الزمان المقسم إلى ساعات، ولم يصبح تسجيل العمر بالأرقام أمراً مهماً إلا مع بداية عالمنا البيروقراطي ونظام القيد العام للمواليد والوفيات.

من هنا، كان إضفاء عمر مسرف في الطول على شخصٍ ما، سمة بارزة على ما يتحلى به من حكمة. (تذكر التوراة أنّ الآباء المؤسسين في الكتاب المقدس ما قبل الطوفان تجاوزت أعمارهم 500 سنة). وبالمثل، كان من الممكن قياس الزمان بمقاييس إنسانية، غير مطلقة، أي بأساليب شخصية تخص الفرد، غير أنها محكومة أيضاً من الناحية الاجتماعية، لأنّ الزمان يحمل دلالات اجتماعية (التقدم في العمر وارتباطه بصناعة القرار وتفسير القانون)، وغير ذلك. وللسنة إيقاعاتها الاجتماعية مثل الاحتفالات والطقوس والأعياد والمواسم.

ثم تواشجت الإيقاعات الشخصية والاجتماعية للمجتمعات التقليدية مع الزمان الطبيعي (الإيكولوجي). ومن نتائج ذلك مثلاً: وضع الرومان نظاماً للساعات الوقتية يتضمن فئة خاصة لساعات النهار (12 ساعة) وفئة أخرى لساعات الظلام، وكانت الساعات في الصيف أطول منها في الشتاء، والعكس كذلك. وتعاقب الفصول له الدرجة نفسها من الأهمية، مع ذلك فالفصول تتباين بين مجتمع وآخر: فعند الأوروبيين 4 فصول، أما عند الإسكيمو 5 فصول، وعند قبائل النوير فصلان رئيسان هما فصل المطر وفصل الجفاف، ومثل ذلك التقاويم.

إذاً، كان الزمان كما تصورته معظم مجتمعات العالم (والتاريخ القريب لمدنيتنا هو الاستثناء الواضح) يتصف بخاصيتين: الأولى أنه كان قياساً للعمر ومدة البقاء والعمليات الجارية استناداً إلى المعيار الإنساني، أي أنه كان نسبياً، وكانت عبارات مثل أكبر من أو صغير جداً أو المرة الأولى والنهاية، أهم كثيراً من الحسابات المطلقة للأعمار. أما الخاصية الثانية، فهي أنه كان تجربة يتميز في جوهره بالتواتر والتكرار. فهو ينطوي على دورات متعاقبة للأحداث، للميلاد والموت والنمو والانحلال، بحيث يعكس دورات الشمس والقمر والفصول.

من كرونوس إلى أيون

يتوغل الزمان في مستويات فلسفية وعلمية، وعدّه كانط شكلَ تجربتنا الداخلية، الأعم والأشمل، مقارنةً بالمكان الذي أسماه شكلَ تجربتنا الخارجية.

لو رجعنا إلى المصطلح اليوناني لكلمة الزمان، فسنجد أنّ كلمة كرونوس تشير إلى الزمان منذ عصر هوميروس، وكرونوس إله يخشى على ملكه من أبنائه فيلتهمهم، واحداً تلو الآخر.

لذلك يفر الإنسان دائماً من كرونوس إلى أيون Aion، الكلمة اليونانية التي تشير إلى الزمان بمعنى الأبدية، والتي احتلت موقعاً جوهرياً في بنية العقل طوال تاريخه. فكي يواجه الإنسان "الماضي، الحاضر، المستقبل"، وضع "الأزلية، السرمدية، الأبدية"، في محاولة منه للتغلب على شر الزمان والانفلات منه.

الفهم الديني

تذهب النظرة الدينية والميثيولوجية بالزمان إلى الحد النهائي من خلال ارتباطه بالقوة الإلهية بمعزل عن الوجود الإنساني الحياتي.

وظهرت نظرية الزمن الدائري أو المتكرر في ديانات الشرق الأقصى أيضاً (الهند، الصين، اليابان) عبر أشكال متعددة (جسد يفنى، روح لا تفنى)، أو في عقيدة "السمسارا" التي تقول إنّ النفس تولد من جديد وتتجسد على نحو متكرر في كائن حي جديد.

أما الهندوسية فتفترض وجود حركة تكرارية دائرية للحياة الأرضية بأكملها، من خلال تعميم مبدأ الولادة والموت على الكون بأكمله، معتمدة على الخلود الزمني للسلطة الإلهية، وفيها 4 حقب متتالية تنهار فيها نوبة الحياة والأخلاق والدين، وكل حقبة يسبقها ويعقبها فجر وشفق لعدة مئات من الأعوام، في نهايتها يُدمَّر العالم ويعاد بناؤه من جديد.

الذاتي والموضوعي

انقسم الفلاسفة فريقين في فهمهم للزمن، من خلال رؤيتين، الأولى تقول بالزمن العقلاني، ويوصف أيضاً بالزمن الموضوعي. ترجع جذور هذه الرؤية إلى أرسطو الذي رأى أنّ الزمن موصوف بالحركة لارتباطه بالأحداث المتحركة، وركز في دراسته الزمنية على الآن أو الحاضر، وعدّه وحدة الزمن، وهو ضرورة بعد الماضي وقبل المستقبل. كما أثّر هذا الفكر الزمني الأرسطي على الفلاسفة العرب والغربيين، مثل ابن رشد وابن سينا اللذين تأثرا بقول أرسطو عن حركية الزمن وأقسامه الثلاثة.

أما الرؤية الثانية فهي الزمن غير العقلاني، الداخلي، الذاتي:

وترجع إلى القديس أوغسطين الذي ربط الزمن بالنفس (الذات). إذ تنطلق النفس من الحاضر مستحضرة الزمن الماضي عبر الذاكرة، كما تتوقع المستقبل عبر العقل أو المخيلة، لذا خلص أوغسطين إلى إنكار حقيقة الزمن وموضوعيته أيضاً لارتباطه بالذات.

يُعرَف هذا الزمن أيضاً بالزمن الوجودي المنسوب إلى الفلسفة الوجودية، التي يُعد هنري برجسون ومارتن هايدغر (الوجود والزمن) من أقطابها، وأجمعا على ارتباط الزمن بالوجود الذاتي أو عالم الإنسان الداخلي المرتبط بالمشاعر والانفعالات.

أما ميشيل فوكو، فلاحظ العلاقة بين الزمن والمعرفة والسلطة، فربط بين المعرفة والزمن وقال في تعريفه نظرية المعرفة إنها مجمل العلاقات التي يمكن اكتشافها بين العلوم في وقتٍ معين، وإنها كيف نعرف لهذه أو تلك من الفترات، الأمر الذي يعني أنّ المعرفة والزمن حركتان مترابطتان، تتبع إحداهما الأخرى.

المراجع

- "فكرة الزمان عبر التاريخ"، تحرير: كولن ويلسون، ترجمة: فؤاد كامل، سلسلة عالم المعرفة، العدد 159، 1992.

- "الزمان في الفلسفة والعلم"، يمنى طريف الخولي، "مؤسسة هنداوي"، 2016.

- "لحظة الأبدية، دراسة الزمان في أدب القرن العشرين"، سمير الحاج شاهين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980.

** يوسف م. شرقاوي