شوقي أبي شقرا... وطارَ الملاك الجريح

 رحل شوقي أبي شقرا (1935-2024) في زمن التهلكة. شاعر مختلف وإشكالي وصاحب قاموس في اللغة وفي مسار الحداثة الشعرية المعاصرة ورائد في كتابة قصيدة النثر. بداياته الأدبية الأولى كانت في مجلة «الحكمة» بإشراف الأديب فؤاد كنعان. وفي عام 1956، أسّس مع ادمون رزق وجورج غانم وميشال نعمة حلقة الثريا. وفي عام 1958، انضم الى مجلة «شعر» بعدما رأى أنّ الأفق المفتوح على الضفاف هو في مناخ مجلة «شعر». يروي أنّه حين دخل منزل الشاعر الراحل يوسف الخال، ليعلن عن انضمامه إليهم، صفّقوا له جميعاً. وفي مجلة «شعر»، كتب القصائد وترجم، وشارك في لقاءات «خميس مجلة شعر» وتولى منصب سكرتير التحرير.

نال جائزة المجلة وقيمتها ألف ليرة لبنانية على كتابه «ماء الى حصان العائلة» نالها بعد السياب وأدونيس. أشرف مع أدونيس على تحرير كتاب «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب قبل دفعه إلى الطباعة. 

عمل في التدريس في «مدرسة بيت شباب». ومارس الصحافة في جريدتي «الزمان» و«البيرق».

وفي عام 1964، التحق بجريدة «النهار» وفيها صرف وأعطى، وكان مع أنسي الحاج في ملحق «النهار»، ثم أسّس الصفحة الثقافية اليومية فيها وكانت مجالاً حرّاً للمبدعين في لبنان والعالم العربي، واستمر فيها حتى عام 2000.

رأيته في جريدة «النهار» يرش الأرض قمحاً فتأتي الطيور من سماوات خفيضة وواسعة. 

وكان منفتحاً على تجارب واختبارات حرة منذ «أكياس الفقراء» (1959) وحتى «أنت والأنملة تداعبان خصورهن» (2020).

وعى شوقي أبي شقرا الشعر بأنّه حضور الغياب. غاب الوالد باكراً وانفك خيط الأمان. غاب المكان، فضاع خيط المستقر. ضاعت الطفولة وغاب النبع السري الذي يروي كل شعر وكل إبداع.

 لكنّ شوقي أبي شقرا قرّر وأصرّ أن يستعيد كل ضائع، فحضرت القصيدة وحضر الحنين وحضر الخيال، ونهض عالماً مختلفاً ومدهشاً وغريباً. 

ومداخله إلى كل ذلك اللغة. حضر الحنين لأنّه تلمس أعمى لكل غائب وحضور للروح، حيث لا يصل الجسد وحضر الخيال لأنه الحكاية التي نصنعها ونخترعها، ونفيء إليها من كل غلط. 

كان نصيب شوقي أبي شقرا من الشعر أن يفسّر ما يصعب وأن يرسم الصورة وعناقيدها وأن تصبح هي الفعل والمبتدأ والخبر.

كان نصيبه أن يشيل الصمت إلى الورق وأسراره. مع شوقي أبي شقرا، عرفنا جوهر المدرسة اللبنانية في غنائية الكتابة الجمالية المنسابة جداولَ. 

عرفنا كيف تستقبل فسحة الخيال في قريتنا طفلاً يلهو. في قصيدته بناء معماري متزن ومتسق ومن الصعب فيه الإضافة والحذف.

ماذا يريد شوقي أبي شقرا من قصيدته؟ أن تظلّ تدهشنا رغم القدر والأشواك ورغم الجروح الذاتية العميقة. 

وصفه الشاعر الراحل أنسي الحاج بأنّه «الملاك الجريح وقد ظلمه عصره بقدر ما ظلم نفسه».

نودّع مع شوقي أبي شقرا الشاعر والصديق زمناً لا يستعاد، زمناً ينضح بالنقاوة والقيم وفيه نشدان إلى الأفق الذي نسافر إليه ولا نعود. 

كتب شوقي غير مرة: «ليتني يمامة تحط في غمامة تنقر الباب على الله ولا تعود».

أخي ماذا يفعل الشعراء؟

إنّهم يحتفلون بالحياة. وشعر أبي شقرا احتفل بالحياة على طريقته واحتفل بالمكان على رسله وباللغة على هواه وبالإنسان كما رآه.

يشيّع غداً الأحد عند الواحدة والنصف ظهراً في «كنيسة مار سركيس وباخوس» في اجبع في إهدن (شمال لبنان)، على أن تُجرى مراسم التأبين في وقت لاحق

سليمان بختي