الرأسمالية: إمبراطورية العار

 من أين أبدأ؟ وهل من كلام أبلغ من قول عمانوئيل كانط:" إنّ الشعور بالعار، ينجم عن الشعور بانعدام الشرف. و هو يعبّر عن التمرد إزاء سلوك، ووضع، وأعمال، وغايات مذلّة، سافلة، دنيئة، تتعارض مع الشرف الناجم عن كون الإنسان إنساناً". وهو إذ يعبّر عن العار بمجمل معانيه، يعتمد تعبيرين: إنّي خجل من الإهانة النازلة بغيري، والحالّة، في الوقت نفسه، بشرفي بوصفي إنساناً.

إنّ إمبراطورية العار يحدّها أفق الذل الحالّ بكل إنسان من جراء ألم البشر. بهذا العمق السحيق من المشاعر الإنسانية إزاء سحق الإنسان، يتناول جان زيغلر في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "إمبراطورية العار"، والذي يعدّ واحداً من الكتب العديدة التي كتبها وترجمت إلى عشرات اللغات العالمية، وكيف لا يكون هذا الصدى يرافق ظلّه وهو السّياسي والأستاذ الجامعي المتخصص بقضايا الأمن الغذائي في العالم والمفوّض السابق للأمم المتحدة. ورغم ترجمة الكتاب إلى تلك اللغات، فإن زيغلر بقي مثقلاً بالديون بسبب دعاوى قضائية مرفوعة ضدّ مؤلفاته.

ومن سلوكياته الإنسانية التي أثارت حفيظة منظمة صهيونية ضده أنه لم يزر "إسرائيل" قط، بل زار الأراضي المحتلة وقدّم تقريراً عن الوضع المأساوي في الضفة الغربية وغزة. وفضح في هذا الكتاب "جريمة 11 أيلول من قبل حكومة الولايات المتحدة الأميركية والشركات العالمية كوسيلة لاحتلال العالم والسيطرة على مقدراته ".

زيغلر البالغ من العمر تسعين عاماً صرّح بأعلى صوته" أنا أرفض وصف حزب الله بأنه إرهابي، إن جريمته مقاومة وطنية، وعندما تفشل كل الجهود في تحرير أسرى بالطرق الدبلوماسية أستطيع أن أفهم قيام هذه الحركة باحتجاز جنود لمبادلتهم". ويقول سوف يتضمن التقرير الذي سأرفعه إلى الأمم المتحدة توثيقاً مفصلاً عن الانتهاكات الإسرائيلية التي ارتكبت بحق المزارعين والبنى الزراعية، واستهداف وسائل النقل، والمواصلات ووجود مئات الألغام التي تشل معاودة النشاط الزراعي، إضافة إلى كل الدمار الذي لحق بكل نظم الريّ، وكذلك القضاء على أسس البنى المادية للصيد وعدم قدرة المزارعين على جني محصول الزيتون أو زرع شتول الموز.

يرى زيغلر أن الحرب التي شنّت على لبنان تشكل حلقة من حلقات الحروب العبثية التي تخوضها إمبراطورية العار، والنظام العالمي الراهن ليس قاتلاً فحسب بل هو قاتل عبثي، فمن يملك المال يأكل ويشرب، أما من لا يملكه فهو يعاني حتى يموت، وكل من يموت جوعاً يموت مغتالاً. وألقى كلمة في جنيف في عام 1982 خلال تظاهرة ضد المذابح في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت.

قال له أرنست تشي غيفارا : "هنا يكمن دماغ الوحش. ومن هنا يجب أن تقاتل" فبهذه العبارة أعطاه غيفارا استراتيجية النضال.

يذخر الكتاب بالصور التي يندى لها جبين الإنسانية: إذ يقول إن أقوى الشركات الرأسمالية الخمسمئة الخاصة والعابرة للقارات في العالم –في نطاق التجارة والطباعة والخدمات والمصارف كانت في عام 2006 تسيطر على 52% من الناتج العالمي الخام، أو بعبارة أوضح على أكثر من نصف الثروات المنتجة في عام واحد على كوكبنا، الذي يضم 192 دولة، منها 122 تقوم في نصف الكرة الجنوبي يتجاوز مجموع ديونها 2100 مليار دولار، في إمبراطورية العار التي تحكمها سياسة التجويع المنظم، لم تعد الحرب حالة طارئة بل هي حالة دائمة، ولم تعد تشكل أزمة أو وضعاً مرضياً، بل وضعاً طبيعياً. وهي لم تعد تعني كسوف العقل، بل هي مبرر إلى وجود هذه الإمبراطورية.

كل شركة رأسمالية عابرة للقارات " لا وزارة تنظم دعايتها فحسب، ولكن أيضاً أجهزتها الخاصة بالتجسس والتجسس المضاد " وكذلك أيضاً فرق من العملاء، وهذه الأجهزة السّرية ناشطة في القارات الخمس وهم يخترقون لا الإدارات الرئيسية " لسادة الأرض " المنافسين وحسب، بل أيضاً مختلف الحكومات الوطنية- ومعظم التنظيمات الدولية الكبرى من حكومية وغير حكومية على وجه الأرض".

يقول زيغلر في كتابه هذا: أحد أول الأشياء التي تعلمتها غداة تعييني في الأمم المتحدة كان الحذر من أجهزة الاتصال التي تربط الهيئة العليا لحقوق الإنسان، ومركزها جنيف بالمركز الرئيسي في الأمم المتحدة في نيويورك. ينصح باستعمال الرسائل المكتوبة بخط اليد والمسلمة لحامله، وهذا ما فعلته طوال شهرين من عام 2002 عندما كنت أعدّ ردي على الاتهامات التي كانت البعثة الأميركية قد وجهتتها لي، في قضية الأجسام المعدلة جينياً.

ويرصد المؤلف صورة أخرى من صور العار، إذ يقول " إنّ منظمة الصحة العالمية تدير عشرات مراكز الأبحاث والمخابر حول العالم، كما أنها تنفق مئات آلاف الدولارات على برنامجها الخاص بمكافحة الإيدز، فضلاً عن تنظيمها في القسم الجنوبي من الأرض، إعداد الأطباء والممرضات. وهي فوق ذلك تبذل نشاطاً قوياً تقويمياً، إذ ترفض أو تقبل أدوية جديدة، وتكافح من أجل استخدام الأدوية المشتقة، وتسعى من أجل تحديد الحماية الفكرية "من خلال تقليص "زمن صلاحية الرخص" للأدوية الضرورية لشعوب العالم الثالث باختصار، إن لنشاط " منظمة الصحة العالمية " تأثيرات مالية ضخمة.

ويضيف أن المرجعية العليا في هذه المنظمة هي الجمعية العامة للصحة، التي تجتمع كل صيف في جنيف. ولكن منظمة الصحة العالمية، هي تنظيم يضم دولاً. لذا، كانت الوفود التي تؤلف الجمعية العامة، هي وفود دول بالضرورة ولذلك كان بعض أمراء صناعة الدواء، وفق منطقهم يبذلون كل عام كنوزاً من المهارات والمبالغ الضخمة من أجل إقناع الدبلوماسيين والموظفين الذين تتألف منهم هذه الوفود، وكانوا ينجحون في ذلك، لذا كانت قرارات الجمعية العامة تخضع بالغالب لإدارة السلطات الإقطاعية الجديدة، ونادراً لحاجات الشعوب.

ويضيف في هذا الصدد، أياً كانت استراتيجيات التغلغل، في نطاق التجسس، أو التجسس المضاد التي يستخدمها السادة الجدد، فإن محرك أعمالهم يظل هو هو: إنه رفع الأرباح إلى أعلى قدر، وفي زمن قصير، وأياً كان الثمن البشري. إنه الجشع الخالص، إنها إمبراطورية الخواء، " الهدف دون هدف " كما كان عمانوئيل كانط يقول.

وأخيراً، يتألف الكتاب من خمسة أقسام: القسم الأول ويتناول مفهوم الحق في السعادة والباب الثاني يتعلق بأسلحة الدمار الشامل من حيث الدين العام والجوع. ويتناول القسم الثالث الحبشة: الإنهاك والتضامن، الباب الرابع يتناول البرازيل طرق التحرر، وأخيراً الباب الخامس إعادة بناء الإقطاع في العالم ويحكي فيه عن الإقطاعيات الرأسمالية وتحطيم المنافسة غير الشريفة وتحطيم النقابات. وفي كل فصل من هذه الفصول، يقدم فيه محطات مسهبة عن الظلم العالمي للإنسان، لا يمكننا أن نشير إليها في هذه العجالة، وأختم بقول لفيكتور هوغو: تريدون مساعدة الفقراء....

وأنا أريد إلغاء البؤس.