الرواية العربية تترنح بين خيانة الكتاب وقرائهم

 لا يذهب مذهب الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي في كتابه "الرواية تموت أم تترنح" (دار النهضة العربية، 2024) مذهب النقاد المشككين القائلين بموت الرواية، وإنما يعرض لفرضية موت الرواية، من أجل أن يبين بطلانها، في الغالب، أو ليشير إلى الجوانب المخفية من الظاهرة التي قد تكشف عن خصوصيات في النوع الروائي المعاصر لم يسبق أن عولجت أو ظهرت. 

ومن تلك السمات التي يعتبرها بعضهم دالة على موت فن الرواية، على ما يقول رولان بارت، نطق الرواية بكل الألسنة وكل الخطابات، بمعنى أن كتاب الرواية اليوم باتوا يستعيرون حيناً خطاب علم النفس، وحيناً آخر خطاب علم الاجتماع، وأحياناً خطاب السياسة أو البيئة أو التاريخ أو الفلسفة أو غيرها، 

وبالتالي فإنهم باستسهالهم استعارة الخطب هذه، يهملون طبيعة نوع الرواية، ويستخفون بجانب التخييل فيها، وبالبنيان الفني، اللذين تقوم الرواية عليهما لصالح الخطاب المشار إليه.

يندرج في باب استسهال الكتابة الروائية - وهو المبحث الثاني في الكتاب - الشروط المادية (المال) الميسرة للطباعة، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي لا تزال تعصف بالمجتمعات العربية، وما ينتج منها من تهاون في تقبل المخطوطات، لدى عدد من دور النشر، ومن غياب للمعايير الإبداعية التي لطالما اعتمدها الكبار، ممن كانوا يتهيبون الكتابة، ويتأنون في بناء عالمهم الروائي، بعد أن يكونوا جمعوا الوثائق واستخلصوا المعلومات الوافية عن موضوعهم المركزي، من الأبحاث ذات الصلة بعملهم الروائي المزمع إنجازه، على نحو ما كان يقوم به إميل زولا وفلوبير وجون إيرفينغ سليلهما وغيرهم.
 
وقد يقول قائل آراغون فيدلر على سبيل المثال، في مقالة عنوانها "موت الرواية وبعثها"، إن الرواية تخلت عن صفتها كأدب شعبي، وصارت أدباً نخبوياً أو فئوياً يعلو على انشغالات الفئات الشعبية، ويتماهى مع تفلت الكاتب الفنان من أي التزام حيال مجتمعه، أو الطبقة التي ينتمي إليها. 

ولربما يعزو بعضهم اندثار نوع الرواية - على زعمه طبعاً - إلى تغير حاسم في نمط العيش، وتقهقر الإطار المديني، الذي كان وما زال حاضناً للنوع الروائي، لصالح الإطار الريفي، وما يتصل به من روابط في الدين والعرق والمنبت.

الرواية والفيلم 

ويمهد لتلاشي فن الرواية - على زعم فيدلر نفسه - صعود الأعمال السينمائية والمدمجة التي تروج لها شركة "نتفليكس"، إذ تستخلص السيناريوات من الأعمال الروائية المتفاوتة القيمة، بهدف تسلية جمهور المشاهدين، فيحلو الفيلم بنظرهم، ويهمل النص الروائي الأدبي.

 وبناء عليه تغلب أفلام النتفليكس النصوص الروائية الأصلية، فلا يرجع القراء إلى هذه النصوص، ولا يهتمون بكاتبها الأصلي، ولا يعنيهم تقييم السيناريو ومقارنته بالنص الأصلي، عدا ما يخطر للنخبة التي تملك من الخصائص والمعارف ما يعينها على إصدار الأحكام القويمة، في هذا الشأن.

ويذكر الكاتب من هذا القبيل أمثلة على ذلك الاستثمار رواية "الاعتداء" للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، وقد تحولت إلى مسلسل في "نتفليكس"، يروج للسردية الإسرائيلية القائلة إن الفلسطينيين إرهابيون، وإن أعمالهم هي اعتداء على المواطنين العزل، وإن تكن المرأة الفلسطينية الأصل، والإسرائيلية الهوية غصباً، هي زوجة الطبيب الراوي، والمنشغل فكره في دوافع امرأته إلى ارتكاب فعلتها، من منظاره المتصالح مع واقع الاحتلال!
 
وغني عن القول إن في هذا الكلام مبالغة وتجنياً، بالنظر إلى سياق أحداث غزة، وما يجري بين ظهرانينا من مجازر يومية في حق هؤلاء الفلسطينيين، إلى آخر السردية المقابلة. 

ولكن النقاش الذي يجريه الكاتب الرياحي في شأن "نتفليكس"، قد يبدو ناقصاً - برأينا - ما دام لم يأخذ بحسبانه الجمهور المعني، بل فئات المجتمع المختلفة، ولا سيما تلك التي تملك القدرة على استقبال الأعمال الروائية ونقدها وتقييمها، وتلك التي تعرف كيف تستثمرها وتحولها إلى أعمال فنية وسينمائية وغيرها، فهل يحسب الكاتب أن غالبية الناس في المجتمعات العربية قادرة على قراءة الروايات، والحكم على كيفية تحويلها إلى أفلام أو مسلسلات تنأى عن أصلها؟

 ولربما كانت لدينا أمثلة عن تحويل روايات نجيب محفوظ إلى أفلام، من مثل زقاق المدق واللص والكلاب وثرثرة فوق النيل وميرامار وبين القصرين وغيرها، خير مثال على الخلافات في وجهات النظر بين المؤلف وبين مخرجي رواياته، من دون إهمال الإشارة الصريحة إلى مؤلفها، المعتد بمكانته وحضوره، في بيئة القاهرة الفكرية والأدبية والأكاديمية والفنية، على السواء.

ثم إن الكاتب يورد حجة أخرى على قرب ملاشاة الكتابة الروائية، مفادها بأن لدور النشر، في بلداننا العربية مصححين معتمدين، يشرفون على تصويب الهنات في مخطوطات الروائيين وكتاب القصص وغيرهم. 

وأن هؤلاء يعمدون في الغالب إلى صيغ صرفية ونحوية تقليدية بديلة عن الأخطاء التي يصادفونها في متن النصوص. 

وهذا من شأنه أن يخفف من إبداعية النصوص الروائية، ويقربها من النماذج التقليدية ولا ينتفع الأدب منها بكثير. 

ذلك أن غالب الكتاب، برأي الرياحي، وإن أخطأوا فإن لهم خصوصيتهم الإبداعية التي تخالف الصيغ التقليدية الجاهزة، سواء في التركيب أم المعجم أم العالم الروائي. 

ولكن هذه الظاهرة هي أضعف، بما لا يقاس، من أن تنال من الرواية كنوع أدبي صاعد في بلداننا العربية، على رغم كل المظاهر المحبطة، وما أكثرها.

السيرة والميتاسرد

وفي الكتاب أيضاً دراسة للرياحي، عنوانها "الميتاقص أو مرايا السرد النارسيسي" (ص:57-72)، يعالج مسألة تضمين الروائية سميحة خريس، متن النص مزيداً من الإشارات إلى كيفيات القص (قص القص، وحكي الحكي، ورواية الرواية). 

ومن المعلوم أن صيغة المفهوم المسبوق بعبارة (ميتا)، وهي تعريب لفظي لمقطع باليونانية تعني (ما وراء، أو تقعيد). ومفاد هذه الظاهرة بأن الروائية سميحة خريس، تبتدع في روايتها "خشخاش" شخصية باسمها (سميحة خريس) وبملامحها وطباعها نفسها، وبمهنتها نفسها، أي كاتبة، وارتأت أن تتحدى ذاتها، فتحاور نفسها في شؤون الرواية، حول عنوانها وشكلها ومضمونها، وحول الشخصية الروائية، وألعاب التحدي بين الكاتبة والشخصية الروائية، وكل ذلك بأسلوب مطعم بقدر من السخرية، والتهكم الذكي. 

وفي هذا تحاكي الكاتبة خريس عدداً من الكتاب العرب، مثل جبرا إبراهيم جبرا، في روايته المشتركة مع عبدالرحمن منيف بعنوان "عالم بلا خرائط"، ورواية "شرق المتوسط" للكاتب الأخير، و"وردة الوقت المغربي" لأحمد المديني، و"الديناصور الأخير لفاضل العزاوي.

وفي الدراسة التي خصها الرياحي برواية "وجوه" لمؤلفها محمد شكري (ص:143-168) ينطلق الباحث من تعريف كل من فيليب لوجون، وجورج ماي للسيرة، والسيرة الذاتية الروائية أو الرواية السير ذاتية، ضماناً لدقة المعايير النقدية وللشبكة التحليلية المعتمدة في درس أي عمل روائي واقع في خانة هذا النوع. 

أما الداعي الأول إلى اعتبار شكري جديراً بكتابة هذا النوع (السيرة الذاتية) فهو مطابقة سيرة الكاتب بصورة عامة مع سرده، 

علماً أن محمد شكري يستهل عمله الروائي المشار إليه بما يشبه الميثاق السير ذاتي الذي حدده فيليب لوجون، وفيه يقطع وعداً على نفسه، في مستهل السرد، بأن ما سيقوله في "نصه هو سرد لحياته الشخصية" (ص:146).
 
ولكن الناقد الرياحي لا يأمن الكاتب شكري، في ما وعد به، فيعمد إلى نقضه في مواضع، كاشفاً عن تفاصيل ووقائع تؤكدها بعض المراجع، من مثل سفاح القربى، بمثل ما اتهمته به ابنته فاطمة، 

في حين ادعى الكاتب أن لوثة ذهنية أصابته، فألجأته إلى مصحة عقلية في تطوان منعاً لتفاقم الفضيحة، فضلاً عن نسيانه عدداً من وقائع طفولته ومراهقته، ليخلص الرياحي من ذلك إلى أن "الحقيقة في السيرة الذاتية هي على الأرجح قضية زائفة، لأن كاتب السيرة الذاتية لا يستطيع أن يتخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه" (ص:149).

وإذ ينتقل الناقد، في قراءته رواية "وجوه" من التبصر في صدقية السيرة، إلى الكلام على الأمكنة الحميمة في طنجة، التي ما وني شكري يصفها ويعين تجاربها فيها، 

ويعرج على الأزمنة المتداخلة في ذاكرة خؤون أحياناً كثيرة، فإنه يلحظ اقتحام أجناس أخرى، من مثل الشعر والقصة القصيرة، متن الرواية، على نحو لا يزعزع سيادة الجنس المعتبر (الرواية السير ذاتية) ويضيف إليها بعداً جديداً.

مسائل وانشغالات

في القسم الثاني من كتاب الرياحي، يناقش الكاتب مسائل متصلة بالفن الروائي، من خلال أعمال روائية عربية مشرقية، وتلك حسنة تحسب للكتاب، لأنها تعرف القارئ المغربي على بعض خصائص الرواية المشرقية التي فاته الاطلاع عليها. 

ومن تلك المسائل مركزية الفيلسوف وهامشية الروائي، في رواية "عشب الليل" للكاتب إبراهيم الكوني. والشخصيات المفاهيمية في رواية "اللاهي" للكاتب السوري جان دوست،

 والرواية العربية والفساد السياسي من خلال رواية "طير الليل" للكاتب الجزائري عمارة لخوص، والروائي والديكتاتور وكلاب الحراسة من خلال رواية "بلاد القائد" للكاتب اليمني علي المقري، ونساء في المعتقلات التونسية من خلال رواية "بيت العناكش" للكاتب سمير ساسي، والأدب الفلسطيني منظوراً إليه بأقلام سليم البيك ويحيى يخلف وعمر خليفة ومحمد سعيد أجيوج وآخرين.

ولئن سلمنا جدلاً، مع الكاتب كمال الرياحي، بأن الرواية كجنس (نوع) أدبي عالمي، تعاني بعض القصور والانحرافات عن معايير لطالما كانت ضابطة صيرورتها منذ 500 عام، فإن ما لاحظناه مع الناقد والروائي الرياحي، في كتابه ذي العنوان الإشكالي، وأمثلته الدامغة على مظاهر إبداعية وانشغالات عميقة الغور للروائيين العرب مشارقة ومغاربة، إنما يدل على أن الرواية لا تزال تشهد تحولات لا حصر لها، وأنها في مدارجها الصاعدة باطراد، وأنها في عز حيويتها وتسيدها على مسرح الآداب والفنون في العالم قاطبة، إلى أجل غير مسمى.

أنطوان أبو زيد