الأدب الأمازيغي في الجزائر.. من يكتب لمن؟
ظلّ معروفًا عن الأدب الجزائري إمّا أنّه مكتوب باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، وله في ذلك أسماء معروفة عربيًا وغربيًا؛ غير أنّ السنوات الأخيرة أظهرت أدبًا مكتوبًا باللغة الأمازيغية التي تعدّ لغة أصيلة في البلاد.
ورغم أن العربية ظلت اللغة الرسمية الوحيدة منذ استقلال البلاد عام 1962، إلّا أن أول رواية كتبت بها هي "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة عام 1970،
في حين كتبت أول رواية باللغة الأمازيغية عام 1946، وهي رواية "وليّ الجبل" لبلعيد آيث أعلي (1909-1950)، بينما سبقت اللغة الفرنسية كلتيهما، إذ كُتبت أول رواية بها عام 1920، هي رواية "الخيّال" لأحمد بن شريف.
ولئن اختلفت روايتا "ريح الجنوب" و"وليّ الجبل" في لغتيهما، وفي السياق الزمنيّ الذي كتبتا فيه، فإنّهما تلتقيان في شغف أبطالها بالانعتاق من العادات والتقاليد البالية التي تكبّل الفرد على مستوى المخيال والأفعال.
ففي "ريح الجنوب" تهرب الفتاة "نزيهة" من بيتها القرويّ إلى الجزائر العاصمة، حالمةً بواقع يحرّر ذاتها وكينونتها؛ وهي الخطوة ذاتها التي قام بها أحمد وَعْلي في رواية "وليّ الجبل"،
ممّا يثير السؤال التالي: ما دامت اللغتان المتجاورتان تاريخيًا في الجزائر تنشدان التحرّر إنسانًا ومكانًا، من خلال مختلف المدوّنات الموروثة عنهما، فلماذا ضُيِّق على اللغة الأمازيغية، فلم يُعترف بها، ولم يُنتبه إلى آدابها وفنونها إلا مؤخرًا؟
ويرى الناقد والأكاديميّ محمد الأمين العلاونة أنّ العرب والأمازيغ تصرّفوا بصفتهم جزائريين فقط خلال فترة الاحتلال الفرنسي (1830-1962)،
فلم يختلفوا ثقافيًا، وأجمعوا على القبول باللغة العربية لسانًا مشتركًا، حتى يتمكّنوا من مواجهة سياسة الطمس الثقافي والحضاري التي اعتمدتها المنظومة الفرنسية، فكان ذلك مقدمة لدخول اللغة والثقافة الأمازيغيتين إلى العتمة،
رغم أنّ الفرنسيين حاولوا إضاءتها، نكاية في العربية التي قرّر الجزائريون مواجهتهم حضاريًّا بها. وهنا يتساءل العلاونة: "لئن كان عزل اللغة الأمازيغية خلال الفترة الاستعمارية مبرّرًا لدواعٍ وطنية، فما مبرر عزلها بعد الاستقلال الوطني؟
ألم يكن مطلوبًا أن يشمل مفهوم الاستقلال ملامح وأبعاد الهوية الوطنية جميعها؟".
على هذا السؤال يجيب الكاتب والأكاديميّ محمد الأمين سعيدي، حيث يقول إنّ العزل كان لدواعٍ سياسية، من ذلك أن السلطة التي تمخّض عنها الاستقلال كانت تحت هيمنة الخطاب القومي العربي،
فرأت أنّ تكريس اللغة العربية يمنحها مشروعية وجدارةً لأن تكون ضمن رموز الفضاء العربي، فمنعت أي تعبير باللغة الأمازيغية.
يقول سعيدي: "لقد فضّلت الحكومات المتعاقبة خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال الوطني مصلحتها السياسية على حساب المصلحة الثقافية الوطنية، ما دفع بالنخب الأمازيغية إلى مباشرة سلسلة من النضالات عرفت باسم "الربيع الأمازيغي" خرجت عام 1980، وأدّى بعضها إلى سقوط ضحايا.
منذ ذلك الحين، بدأت السلطة تقبل المطالب الأمازيغية بالتقطير، بدءاً من إطلاق قناتين إذاعية وتلفزيونية، فإنشاء "المحافظة السامية للأمازيغية"؛ وهي هيئة مُلحقة برئاسة الجمهورية، فإقرار تدريس اللغة الأمازيغية في بعض المناطق، فاعتمادها بصفتها لغة وطنية في دستور 2020، وصولاً إلى إطلاق "جائزة رئيس الجمهورية للأدب الأمازيغي".
ولئن تعوّد الجزائريون على وجود تعابير فنية أمازيغية، مثل الموسيقى والأغنية التي انتشر بعضها عالميًا، فقد كان ظهور أعمال أدبية مفاجئًا، بحكم أنّ الأمازيغية ظلّت شفهيّة، ومنظورًا إليها باعتبارها لهجة وليست لغة معيارية،
بالتالي فهي عاجزة عن التعبير أدبيًا بالمقارنة مع اللغتين العربية والفرنسية.
في عام 2010، قام فرحات بلّولي أستاذ الأدب في "جامعة البويرة" (100 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة)، بترجمة رواية "سالاس ونوجة" لإبراهيم تازاغرت، من الأمازيغية التي تُحصي 14 متغيّرًا لغويًا، إلى اللغة العربية،
فوجد القارئ الجزائري نفسه أمام نصٍّ روائي متكامل الأركان السردية، من أحداث ومعمار وتخييل، ما جعل التهرّب من الاعتراف بقدرة هذه اللغة على العطاء الجمالي صعبًا.
حظيت الترجمة العربية بطبعات إضافية، وانتقلت إلى الفضاء المصري. وما ضاعف الدّهشة أنّها صدرت عن دار نشر متخصّصة في الكتاب المكتوب بالأمازيغية لكاتبها نفسه هي "دار ثيرا".
يقول إبراهيم تازاغرت ، إنّه وجد نفسه، إضافة إلى الرهان الجمالي في الكتابة، أمام الرهان النضالي، "إذ كنتُ مطالبًا بالبرهنة على أنّ اللغة الأمازيغية ليست مجرد لسان للتواصل اليومي العادي فقط،
بل هي أيضًا لغة مالكة لأبجدية مستقلة، وللقدرة على أن تقول المكان والإنسان والوجود، عن طريق الإبداع الأدبي بمختلف أجناسه، منها الرواية التي باتت ديوان العالم والإنسان المعاصر، فكان عليّ أن أكتب رواية تستطيع أن تنتقل عن طريق الترجمة إلى مختلف اللغات الحية، وفي مقدمتها اللغة العربية بصفتها شريكة في الفضاء والعطاء".
ويروي تازاغرت طرفة تبيّن فداحة الأحكام الجاهزة على بعض العقول المتعصّبة، حيث يقول: "عرضتُ الترجمة العربية لروايتي على صديق لا يؤمن بالقدرات الأدبية والبلاغية والجمالية والفلسفية للأمازيغية،
وقلت له إنها لمستشرق فرنسيّ، فأبدى إعجابًا كبيرًا بها، لكن ما إن قلت له إنها لي، وإنّها مكتوبة في الأصل بالأمازيغية، حتى انقلب على عقبيه، وراح ينفي عنها التميز
ويتابع الروائي أنّ مشهد النشر في الجزائر بات يتوفر على ما لا يقل عن عشر دور نشر متخصّصة في الكتاب الأمازيغي، من شعر وقصة ورواية وفكر وفلسفة وبحوث أكاديمية، "وهي بغضّ النظر عن الإكراهات التي تعانيها المقروئية عمومًا في البلاد باللغات كلها، تفرض وجودها من عام إلى آخر".
وممّا أثار الدّهشة أيضًا، إقدام الإعلاميّ أحمد سليم آيت وَعلي على ترجمة كبار شعراء العالم إلى اللغة الأمازيغية، منهم محمود درويش وطاغور وبوشكين ونيرودا، بالموازاة مع ترجمة فيلسوف الأغنية الأمازيغية لونيس آيث منغلات إلى اللغة العربية.
يقول وَعلي : "قررت أن أترجم أشعار العالم لأقول إنّ الأمازيغية تملك القدرة على استيعاب إبداعات غيرها من اللغات، وأترجم منها إلى العربية لأقول إنّها تملك المعارف والفلسفة والجماليات مثل أي لغة في العالم".
وفي السياق نفسه، يعترف الشاعر الأمازيغيّ أحسن معريش ، بأنّ ربع قرن من إقرار تدريس الأمازيغية، بما في ذلك في الطور الجامعي، قد أفرز نخبة من الكتّاب والقرّاء، الذين باتوا يشكلون أرضية للمقروئية الأمازيغية في الجزائر.
ويقول "كما أنّ جائزة رئيس الجمهورية للأدب والثقافة الأمازيغيين التي تشرف عليها "المحافظة السامية للأمازيغية"، التي عملت على إدخال الحرف الأمازيغيّ في الإعلام الآليّ، وجائزتي آسيا جبّار ومحمد ديب للرواية اللتين أدرجتا الرواية المكتوبة بالأمازيغية،
بالإضافة إلى العربية والفرنسية، قد ساهمت في جعل الأدب الأمازيغيّ حقيقة في الوجدان والميدان". ويستطرد قائلاً: "لقد أصبحت الأمازيغية لغة وطنية بحكم الواقع والدستور، فعلى المؤمنين بها أن يُركّزوا على تقديمها بصفتها لغة إبداع، خاصّة من خلال الترجمة، في ظلّ التكامل بينها وبين شقيقتها العربية".
عبد الرزاق بوكبة