عواصم الكتاب.. ما الجدوى وراء اللقب؟
يثير اختيار منظمة اليونسكو لمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عاصمةً للكتاب هذا العام، بعدما نالت مدينةُ ستراسبورغ الفرنسية اللقب في عام 2024، أسئلةً حول ما يمكن أن تقدّمه لسكانها من فوائد ثقافية، وما يمكن أن تصدّره للعالم في هذه المناسبة التي ينبغي استغلالها من جميع الجوانب على أكمل وجه.
في واقع الأمر، لا يُعلن عن اختيار مدينةٍ ما عاصمةً للثقافة أو للكتاب إلا ويُتبَع ذلك بإعلان آخر عن اختيارات مماثلة للسنوات المقبلة. وإذا كنا نعلم أنّ الرباط المغربية ستكون عاصمةً للكتاب في عام 2026،
فإنّ هذا يدعو للتفكير في الخطوات التي يمكن أن تُقدِم عليها من أجل خلق ديمومةٍ لأفعال وإنجازات تعود بالنفع على المغاربة والعرب معاً، في ظلّ تراجع الاهتمام بالكتاب لصالح أولويات أخرى، كالسعي لتأمين لقمة العيش، والاكتفاء بما تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي للمستخدم.
الزخم المفترض من وراء كثافة هذه الأخبار يُطرب المثقفين والكُتّاب، لكنه في واقع الأمر يضع المدن المختارة أمام تحديات كبيرة، تبدأ بوضع مخططات تجعل من المناسبة فرصةً قيّمةً لمواطنيها وزائريها للتمتع والاستفادة من حضور مثقفيها ونتاجاتهم، ولا تنتهي بالبحث عن الأثر الذي تتركه في تاريخها، مثل إنشاء أبنية جديدة كالمسارح والمكتبات ودور السينما، وغير ذلك.
وإذا قُيّض لنا وضع معايير لقياس قدرة المدن على مواجهة هذه التحديات ومعرفة مدى نجاحها، فإن المراجعات التي تُجري هذا القياس ستقدّم للمعنيين نتائج مهمة ومفيدة، قد تؤدي لاحقاً إلى تغييرٍ ما في آلية اختيار المدن مستقبلاً.
لكن، قبل التدقيق في إنجازات وزارات وإدارات الثقافة في الدول التي يقع عليها الاختيار، ينبغي النظر في ما يُؤمَّل أن تعود به هذه العملية من فوائد.
ففي حالة المدينة البرازيلية، الشهيرة بنشاطها السياحي، والتي بدأت احتفالاتها بالاختيار في 23 إبريل/ نيسان 2025، أي في اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف،
فإن الأمر - افتراضاً - سيعود عليها بمعارض كتب ومهرجانات أدبية تستضيف فعاليات تجمع بين القرّاء والكُتّاب والناشرين، وأيضاً ورشات عمل تعليمية لتعزيز مهارات القراءة والكتابة، خاصةً لدى الشباب،
وكذلك مبادرات رقمية تهدف إلى استخدام التقنيات الحديثة لنشر الكتب وتعزيز الوصول إلى المعرفة، إضافة إلى برامج مجتمعية تُطلق مبادرات تستهدف المجتمعات المحلية لتعزيز ثقافة القراءة.
وفي مراجعة أسباب اختيار المدينة (وهي المرة الأولى التي تحصد فيها مدينة ناطقة بالبرتغالية لقب العاصمة العالمية للكتاب)، وإعلان مديرة اليونسكو أودري أزولاي قبل عامين، فإن ذلك لم يكن نابعاً من التركيز على فكرة التنوّع اللغوي أو الثقافي، بل جاء استناداً إلى خطة سابقة أعدّتها إدارة المدينة.
يتضح ذلك في الإعلان الذي تضمّن "تثمين أهمية إرثها الأدبي، فضلاً عن رؤيتها وخطة عملها واضحتَي المعالم، والراميتين إلى ترويج الأدب، والنشر المستدام، والقراءة بين الشباب، وتسخير التقنيات الرقمية لهذه الغاية".
كما أن التوافق على المدينة جاء نتيجة التركيز على مشروعها الذي تضمّن "قوة محرّكة لإحداث التغيير الاجتماعي، من خلال جملة من الأمور، من بينها محو الأمية، والتعليم، والقضاء على الفقر، وتحقيق المنفعة الاقتصادية المستدامة بما يتماشى مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة".
وقبل التعويل كثيراً على خطة مدينة عام 2025، ربما من المفيد النظر إلى ما حققته مدينة العام الماضي، أي ستراسبورغ الفرنسية؛ حيث تُظهر المتابعات الصحافية والميدانية أنّ خطتها استُكملت حتى النهاية، ولا سيّما في المشاريع ذات البعد الجماهيري، إذ بلغ عدد الأنشطة ما يقارب الألف، أي بمعدل ثلاثة أنشطة يومياً.
ورغم هذه الكثافة، فإن ذلك يُعد أمراً طبيعياً في عاصمة الاتحاد الأوروبي، التي تشهد يومياً فعاليات متنوعة. وقد برز من بين التظاهرات المكرّسة للمناسبة مشروع "اقرأ عالمنا" الذي يُصوّر سكاناً من أعمار مختلفة يقرأون كتبهم المفضلة في أماكن متعددة، وكذلك "مهرجان الطباعة" في صيف العام الماضي، لتعريف القرّاء بصناعة الكتاب في كل مراحلها.
ومن المشاريع التي أُقيمت لتبقى "أكاديمية الكُتّاب من أجل حقوق الإنسان"، وهي مبادرة جمعت بين جامعة المدينة وبلديّتها، واجتمع في إطارها تسعة كُتّاب وكاتبات من خلفيات وثقافات متعددة، بهدف تسليط الضوء على دور الأدب في الدفاع عن حقوق الإنسان والتعبير عن القضايا الإنسانية والاجتماعية.
وأصدروا في نهاية نشاطهم بياناً بعنوان "الوجود، الكتابة، المقاومة"، نُشر في ختام السنة، يُبرز التزام الأدب بالتصدي للظلم، ويدعو إلى حرية التعبير، ويؤكد أهمية التعددية الثقافية واللغوية، كما يشدّد على أن الكتابة تُعدّ فعلاً من أفعال المقاومة في وجه القمع والاضطهاد.
ومن خلال تجربة ستراسبورغ، يمكن التوقف عند ملمحين: أولهما أنَّ الفعاليات استندت إلى بنية متينة وسياق مستمر من الفعل الثقافي، وهذا لا يقتصر على هذه المدينة فقط، بل ينطبق على أغلب المدن الأوروبية.
أمّا الثاني، فهو أنّ المناسبة شكّلت منصة تتصل بالهاجس الحقوقي والنظر في ثقافة حقوق الإنسان حول العالم، أي أن الفرصة كانت متاحة أمام المعنيين لتوسيع الفضاء إلى ما يتجاوز الحيّز الجغرافي المحلي،
فضلاً عن استضافة فاعلين من ثقافات مختلفة لتقديم نتاجهم والتعريف به لدى الجمهور المحلي.
فإذا كانت طرق الثقافة تتقاطع في الرباط المغربية – ووفقاً لإعلان اليونسكو – "حيث تساعد الكتب على نقل المعارف والفنون بجميع أشكالها، ويضطلع قطاع الكتب المتنامي أيضاً بدور أساسي في النهوض بالتعليم"، فإنّ القضايا الملحّة هنا، وبعد الإيفاء بحاجيات الواقع،
لا بدّ أن تنظر في ضرورة تكريس هذه المكانة، ليس فقط من جهة كون الرباط مدينةً للنشر (إذ تضم 54 دار نشر، وثالث أكبر معرض دولي للكتاب والنشر في أفريقيا، وعدداً متزايداً من المكتبات)،
بل أيضاً من خلال تأكيد ريادتها في تعميم المعرفة، وتمكين المرأة والشباب عبر القراءة، ومكافحة الأمية، لا سيما في المجتمعات المحرومة من الخدمات.
في المحصلة، لا تكفي الألقاب الرمزية وحدها لإحداث تغيير ثقافي حقيقي، ما لم تقترن بخطط طويلة الأمد تؤسس لبنية معرفية مستدامة. فأن تكون المدينة "عاصمةً للكتاب" هو شرف عابر،
أما أن تصبح موئلاً دائماً للقراءة والإبداع والتعدّدية، فذلك يتطلب عملاً دؤوباً يدمج الثقافة بالتنمية، ويجعل من الكتاب وسيلة لا للاحتفال فقط، بل للتغيير المجتمعي الحقيقي.
هكذا فقط، ستظل ذكرى هذه العواصم محفورة لا في سجلات اليونسكو فحسب، بل في ذاكرة أهلها ووعي أجيالها القادمة.
*علي سفر ، كاتب من سورية