Logo

الأدباء العرب.. وحيدون على سرير المرض

 وجّه العديد من المثقفين والكتّاب المصريين دعوات بضرورة توفير رعاية طبية عاجلة وشاملة تليق بمكانة الروائي صنع الله إبراهيم الأدبية. 

غير أنَّ السؤال الذي يفرض نفسه على امتداد المنطقة العربية، هو: هل قدَر الكتّاب والمبدعين أن يمضوا في قلق نحو معركة مواجهة الأمراض والآلام ليموتوا في صمت، خاصة أنَّ أغلبهم يعاني من ضيق ذات اليد؟ 

وهل مواجهة الموت بصدور عارية هي الامتداد الطبيعي والدائم لحياة الكتّاب العرب بمواجهة التخلف والاستبداد وانحسار الحريات؟

ففي غياب الرعاية الصحية وضيق ذات اليد، يُترك الكثير من الكتّاب والمبدعين العرب عُزلاً في المستشفيات العمومية، أو في غرفهم الباردة، أو في يأسهم الكبير، كأنَّ المؤسسات الثقافية القائمة تغتبط حين ينهكهم المرض، وتغيب أصواتهم في حرقة الآلام. 

ذلك أنَّ أغلب هؤلاء لا يتوفّرون على أي تأمين صحي، ولا على أي حماية اجتماعية تكفّ عنهم عوادي الزمان، خاصة أنَّ "الوظيفة" التي يرتضونها لأنفسهم هي العمل الأدبي والفكري الحرّ والمستقل عن الدولة، مما يفضي بهم في نهاية المطاف إلى عزلة مزدوجة: 

عزلة المرض ثم عزلة التهميش. والحال أن الاهتمام بهم هو عمود النور الذي يبدل وحشتهم أملاً.

ليس صنع الله إبراهيم إلا مفرداً وسط العدد، إذ لا يُسقى من إناء الاهتمام إلا أهل الحظوة الذين امتهنوا المديح ومالوا إلى صف الجور، بينما يكتشف الكتّاب الذين لا يميلون إلى الانحناء أن كدّهم الفكري أو الأدبي لا يجدي نفعاً في لحظة الاكفهرار الصحي أو الضيق الاجتماعي. 

فقد كتب المسرحي السوري سعد الله ونوس، ابن قرية حصين البحر القريبة من طرطوس، نصه الأخير "الأيام المخمورة" من على سرير المرض وهو يقاوم السرطان ببسالة، قبل أن ينحني قليلاً إلى الأمام ليطلّ على الموت في 15 مايو/ أيار 1997، ساكباً على أعتاب الوطن كل دمه،

 تاركاً خلفه تراثاً مسرحياً عبقرياً وصوتاً يأتي من جهة النبوءة والحلم العربيين.
 
ولأن المرض أوسع مدى، فإنَّ شاعراً سورياً آخر بقيمة محمد الماغوط انطفأ في عزلة شبه تامة. 

فرغم أنه القائل: "لا أريد شيئاً، فطول حياتي وأنا أركض ولم أصل إلّا إلى الشيخوخة... أيها النسّاجون: أريد كفناً واسعاً لأحلامي!"، انتهى به المطاف إلى الوقوع في براثن المرض، رهيناً للكرسي المتحرك والعصا، ولقليل من المتع الصغيرة، والكثير الكثير من السخرية العارمة. 

ثم رحل عن عالمنا بعد ذلك في 3 إبريل/ نيسان 2006، وقد كان عمره عند وفاته 73 عاماً، مخلفاً وراءه العديد من الدواوين الشعرية والمسرحيات، من بينها "الفرح ليس مهنتي"، و"كاسك يا وطن"، و"سأخون وطني"، و"الحدود" (فيلم سينمائي).. إلخ.

وبسبب أنهم معاندون، فإن هؤلاء الكتّاب يفضلون، في جلّ الحالات، الاختباء في آلامهم عوض الاستجداء أو الارتماء في حضن السلطة، وكان هذا مآل الكثيرين، أمثال إبراهيم أصلان (مصر) الذي عاش كريم النفس ورحل دون تغطية صحية كافية. 

ومحمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري (المغرب) الذين قضوا بعد أن تمكّن السرطان من أجسادهم رغم تمتعهم بالرعاية الملكية؛ 

والطاهر وطار (الجزائر) الذي صارع السرطان بصمت إلى أن رحل في أغسطس/ آب 2010؛ 

وعبد الوهاب البياتي (العراق) الذي قال: "نحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب/ نذوي كما تذوي الزنابق في التراب/ فقراء، يا وطني نموت وقطارنا أبدًا يفوت"، قبل أن يُسلم الروح في 3 أغسطس/ آب 1999 عن عمر 73 عاماً؛ وشوقي بزيع (لبنان) الذي عانى طويلاً وتحدث كثيراً في مقابلات عديدة عن العزلة القاهرة التي يعيشها المثقّف حين يمرض.
 
وإذا كانت الكتابة فعلاً حراً والتزاماً مسؤولاً، بالدرجة نفسها التي هي "فعل سياسي وأخلاقي بامتياز"، كما يقول سارتر، فإن الامتياز الذي تمنحه للكاتب هو أن يحيا على نحو تجريبي (نيتشه)، حتى وإن كان الثمن هو أن يعيش أقصى حالات العوز. 

الكتابة ليست امتيازاً اجتماعياً أو مهنياً، ولهذا السبب تحديداً ينبغي أن يتعامل الكاتب مع آلامه ليس بمنطق "الحالة الاجتماعية"، بل بالنظر إلى الواقع العام: 

هل يعيش في دولة راعية تحترم مبدأ تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة والمسؤولية العامة تجاه المواطنين غير القادرين على تأمين العلاج، أم في دولة تجعل من تحمّل المواطنين تكاليف التطبيب ضرورة اجتماعية؟
 
لقد توجهت مجموعة من الدول العربية، ومنها المغرب، نحو اعتماد نظام التغطية الصحية لمزاولي المهن الفنية، وإقرار مجموعة من التدابير الكفيلة بالنهوض بالوضع الاعتباري والاجتماعي للفنان، 

من قبيل إعادة النظر في مكتب حقوق المؤلفين، وإنشاء التعاضدية الوطنية للفنانين، وتشجيع هؤلاء على الانخراط في نظام التغطية الصحية الإجبارية التي يدبّرها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. 

وهو النظام الذي بالإمكان سحبه على الكتّاب والمبدعين الذين لا يتمتعون بأي تغطية صحية في البلدان العربية، بدل ترك الكاتب تحت رحمة العوز والمرض، في انتظار التفاتة "رسمية" من هذه الجهة أو تلك.

إن العديد من المثقفين والكتّاب والفنانين العرب يشتهون أن ينتهي هذا الوضع إلى غير رجعة، حتى لا يقعوا في الحرج، وحتى لا يتحولوا، رغماً عنهم، إلى "مواطنين أصحاب امتياز". 

وحسب الكاتب، أن يلقى التشجيع من المؤسسات الثقافية عبر النشر والقراءة وإقامة الندوات واللقاءات الثقافية، بدل تنظيم حفلات التأبين أو الرثاء، أو الاكتفاء بتكريم الراحلين وإطلاق الجوائز والشوارع بأسمائهم.

يحتاج الكاتب العربي إلى إنشاء صناديق دعم صحي وثقافي للكتّاب والفنانين، والدفاع عن حق الرعاية الصحية والاجتماعية للكتّاب والأدباء، فضلاً عن ربط المثقف بمؤسسات ثقافية أو إعلامية (مثل الصحف والمجلات) تضمن له الأمان في شيخوخته. 

كما ينبغي إدماج الملف الصحي للمبدع ضمن مسؤوليات وزارات الثقافة أو النقابات أو التعاضديات، ذلك أن الكاتب ليس صوتاً عابراً، بل ضمير أمة، والقائم على حراسة وتطوير تراثها اللامادي. 

ولذلك، فإن تعريضه لجموح الأمراض والفيروسات والآلام دون أي اهتمام، يُعتبر إهانة للذات العربية في أسمى درجات تعبيراتها.
 
* سعيد منتسب
كاتب وشاعر من المغرب