التوراة من الوحي إلى التدوين: تفكيك الأسطورة وبناء الذاكرة في العقل اليهودي
يعدّ تطور النصوص المقدسة اليهودية عملية معقدة تمتد عبر ثلاثة آلاف عام، وقد شهدت تحولات دينية وثقافية وتاريخية متعددة. فمنذ عهد موسى عليه السلام وحتى العصر الحاضر، تطورت الكتب المقدسة اليهودية من خلال التقاليد الشفهية، والنصوص المكتوبة، والتحرير، والترجمات، والشروحات.
لفهم هذا التطور، من الضروري دراسة النصوص، والسياقات التاريخية، والأبحاث العلمية التي توضح كيفية تشكيل الكتاب المقدس اليهودي بشكل تدريجي.
تبدأ النصوص المقدسة اليهودية كتقاليد شفهية. وفقاً للتقاليد اليهودية، فإن موسى تلقى التوراة (الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس العبري) مباشرة من الله عز وجل خلال فترة وجوده على جبل سيناء.
كانت هذه التعاليم تُنقل في البداية شفهياً، وهو أمر كان شائعاً في الحضارات القديمة التي كانت تعتمد على النقل الشفهي كمصدر رئيسي لحفظ المعرفة الدينية والثقافية.
موسى والتوراة
تُعدّ التوراة، والتي تُعرف في التقليد المسيحي باسم «الأسفار الخمسة (Pentateuch)»، النص التأسيسي المركزي في الديانة اليهودية. ووفقاً للتصور التقليدي، فإن موسى هو من كتب التوراة أثناء فترة التيه في الصحراء والتي امتدت لأربعين عاماً.
غير أن الرأي السائد في الأوساط الأكاديمية المعاصرة يعتبر أن تأليف التوراة كان نتاجاً لعملية مركبة وتراكمية، استغرقت قروناً من الزمان، وتداخلت فيها مصادر متعددة ومدارس فكرية مختلفة.
إذ تجمع التوراة الحالية بين نصوص قانونية، وسرديات تاريخية ولاهوتية، ووصايا ذات طابع ديني وأخلاقي، جرى تناقلها وتوسيعها عبر الأجيال.
ويُفترض أن الجماعات اليهودية المختلفة أسهمت في بلورة هذه النصوص وصياغة تأويلاتها، في سياقات سياسية وثقافية ودينية متباينة، ما أدى إلى تبلورها بالشكل الذي نعرفه اليوم.
وتشير المعطيات النصية والتحليل التاريخي إلى أن البدايات الأولى لتدوين بعض المواد التوراتية تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، ربما في إطار نخبوي داخل البلاط الملكي في يهوذا أو إسرائيل.
غير أن المرحلة المفصلية في تشكّل النص التوراتي بصورته الجامعة قد وقعت خلال القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وتحديداً في سياق السبي البابلي وما أعقبه (586–400 ق.م).
في هذه الفترة الحرجة، التي شهدت سقوط النظام الملكي وتدمير الهيكل، برزت التوراة كبديل نصي للسلطة الدينية والسياسية المفقودة، مما دفع الكتبة والكهنة إلى إعادة تجميع الروايات القديمة، وتدوينها، وتنقيحها، وتوحيدها ضمن بنية سردية ولاهوتية متماسكة.
وقد أصبح النص بذلك وعاءً لهوية دينية جديدة تتجاوز البنية القومية السابقة، وتعكس تحولات عميقة في الوعي الديني اليهودي.
ويُنظر إلى السبي البابلي، الذي شكّل أزمة وجودية وجماعية لليهود، بوصفه اللحظة المحورية التي دفعت نحو إعادة تأمل التاريخ الجمعي، مما أفضى إلى إعادة كتابة المرويات القديمة وإدراجها في نسق تفسيري يعيد تأطير العلاقة بين الشعب والإله، بعيداً عن الهيكل والجغرافيا، وضمن منطق جديد قائم على النص المكتوب.
إن التوراة، من هذا المنظور، هي نص مركّب متعدد الطبقات، يعكس جدلاً طويل الأمد بين الذاكرة والتاريخ، بين السلطة والتقليد، وبين المقدّس والسياسي.
وعلى الرغم من أن التقليد اللاهوتي اليهودي والمسيحي يحافظ على تصور ثابت عن مصدر التوراة الإلهي، فإن الدراسات النقدية الحديثة تُظهر أن هذا النص تطوّر في سياقات اجتماعية وسياسية متغيرة، مشحونة بالصراعات، والتأويلات، والتحولات العقائدية.
ومن ثمّ، فإن فهم التوراة بوصفها مشروعاً تراكمياً ومعماراً نصياً متعدد المصادر، لا يفتح فقط أفقاً جديداً لفهم النصوص الدينية، بل يتيح أيضاً قراءة أعمق لتاريخ الوعي الديني في العالم القديم، بوصفه نتاجاً إنسانياً لتفاعلات مركبة بين الإيمان، والسلطة، والذاكرة، والتحوّل الحضاري.
من بين النظريات العلمية الأكثر قبولاً فيما يتعلق بتأليف التوراة هي نظرية المصدر الوثائقي Documentary Hypothesis، التي تفترض أن التوراة عمل مركب مأخوذ من أربعة مصادر رئيسية:
اليهويست: يركز على العلاقة الشخصية بين الله والإنسان، ويستخدم اسم «يهوه» للإشارة إلى الله.
إلوهيمست: يعرض الله بشكل أكثر تجرداً، ويستخدم كلمة «إلوهيم».
ديوتيرونوميست: مرتبط بسفر التثنية ويعزز القوانين والعهد.
كهنوتي: يركز على الطقوس، الأنساب، والقوانين، خاصة في سفر اللاويين وسفر العدد.
تم دمج هذه المصادر على مر الزمن من قبل محررين مختلفين لتشكيل النص الموحد الذي أصبح التوراة كما نعرفها اليوم.
دور الأنبياء في فترة السبي وما بعد السبي
خلال وبعد السبي، لعبت شخصيات نبوية وكهنوتية مثل حزقيال، عزرا ونحميا، دوراً حاسماً في تنظيم وتجميع النصوص المقدسة. على سبيل المثال، يحتوي سفر حزقيال على رؤى تعكس التوتر بين هوية إسرائيل الوطنية وواجباتها الدينية.
ويُنسب إلى عزرا تجميع أجزاء كبيرة من التوراة، مما أضاف تأكيداً على أهمية القانون وعبادة يهوه.
بحلول وقت العودة إلى القدس وإعادة بناء الهيكل الثاني (516 قبل الميلاد)، كانت العديد من النصوص التأسيسية قد اكتملت، على الرغم من أن عملية تحرير وتجميع النصوص استمرت.
مع انتشار الشتات اليهودي في أنحاء العالم والبحر الأبيض المتوسط، تم ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اللغة اليونانية. كانت الترجمة الأكثر أهمية هي السبعينية «LXX»، التي تم إتمامها بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد في الإسكندرية.
أصبحت السبعينية النسخة الأكثر استخداماً بين اليهود الناطقين باليونانية، ولاحقاً، في المسيحية المبكرة.
لعبت السبعينية دوراً حاسماً في نشر الفكر اليهودي في العالم الهلنستي، وأثرت بشكل كبير على اللاهوت المسيحي. في بعض الحالات، كانت السبعينية تختلف بشكل كبير عن النصوص العبرية، مما أثار نقاشات حول دقة وشرعية الترجمة اليونانية.
وبذلك يمكن القول إن شكيل القانون اليهودي لم يكن عملية فورية. فقد اعتمدت مجتمعات يهودية مختلفة على نصوص متنوعة باعتبارها مقدسة، واستمرت النقاشات حول شرعية بعض الكتب لعدة قرون.
التناخ (الكتاب المقدس العبري)
حدث استقرار الكتاب المقدس العبري، أو التناخ (التوراة، الأنبياء، الكتابات)، بشكل كبير بحلول القرن الثاني الميلادي.
ومع ذلك، بقي قسم الكتابات (كتوفيم) مرناً إلى حد ما، واستمرت النقاشات حول تضمين بعض الكتب مثل سفر أستير، الجامع، ونشيد الأنشاد إلى وقت مبكر من العصر المشترك.
تأثرت هذا العملية بعوامل عدة، منها:
الأحداث التاريخية: أدى تدمير الهيكل الثاني في عام 70 ميلادي وصعود اليهودية الربانية، التي ركزت على دراسة وتفسير التوراة، إلى تثبيت القانون.
التحولات الثقافية: مع انتشار المجتمعات اليهودية في الإمبراطورية الرومانية، أصبحت الحاجة إلى مجموعة موحدة من النصوص المقدسة أكثر إلحاحاً. ساعدت السلطات الربانية في تأسيس قانون موحد يعكس تعاليمهم وتفسيراتهم.
وخلال العصور الوسطى، أنتج العلماء اليهود مجموعة ضخمة من الشروحات والتفسيرات، مما شكل النصوص المقدسة اليهودية بشكل أكبر.
التلمود
يعد التلمود، الذي يتكون من المشناه والجمارا، من أهم النصوص في اليهودية الربانية. تم تجميعه بين القرنين الثالث والسادس الميلادي، ويحتوي على مناقشات مفصلة حول الشريعة اليهودية، والأخلاقيات، والعادات، والقصص.
كان التلمود أساسياً في الحفاظ على النصوص المقدسة وتوسيع تفسيراتها، مما ضَمَنَ استمرار تأثيرها في الحياة اليومية.
وقد كتب العلماء اليهود في العصور الوسطى، مثل راشي (1040-1105) وموسى بن ميمون (1138-1204)، شروحات موسعة على التوراة والكتب المقدسة الأخرى.
تناولت هذه التعليقات مسائل لاهوتية، قانونية وفلسفية، ولا يزال تأثيرها محسوساً في دراسة اليهودية حتى يومنا هذا.
أحدث اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر ثورة في توفر النصوص المقدسة اليهودية. تم نشر أول نسخة مطبوعة من الكتاب المقدس العبري من قبل دار نشر سونسينو في عام 1488، مما جعل النصوص متاحة على نطاق واسع وساهم في انتشار الفكر اليهودي.
وفي العصر الحديث، غيّرت دراسات النقد الكتابي- خاصة منذ القرن التاسع عشر- فهم النصوص المقدسة اليهودية. طبق العلماء مثل يوليوس فيلهوزن ومن معهم طرقاً نقدية تاريخية لدراسة الكتاب المقدس، مما شكك في الآراء التقليدية حول تأليف النصوص وتاريخها وتركيبها.
ومع تأسيس إسرائيل عام 1948، استعاد الكتاب المقدس العبري مكانة مركزية في الحياة العامة اليهودية. وقامت دولة إسرائيل بتشجيع دراسة الكتاب المقدس العبري كركيزة للهوية اليهودية.
وقد ظهرت ترجمات وشروحات جديدة، حيث يواصل العلماء والقادة الدينيون والخاصة النقاش حول تفسير النصوص المقدسة وتطبيقاتها في المجتمع المعاصر.
نصّ في تطور مستمر
إن تطور النصوص المقدسة اليهودية هو قصة تحول. فمن التقاليد الشفهية المنسوبة إلى موسى حتى الكتب المقدسة المطبوعة في العالم المعاصر، تطورت النصوص اليهودية استجابةً للتحولات التاريخية والاجتماعية والدينية.
لم تظلّ هذه النصوص ثابتة؛ بل كانت في تطور مستمر، حيث تم إعادة تفسيرها وتكييفها لتلبية احتياجات المجتمعات اليهودية عبر العالم.
وتستمر هذه العملية اليوم مع تفاعل العلماء، القادة الدينيين، وعامة الناس مع هذه النصوص القديمة لإيجاد معنى في العالم المعاصر.
إن تطور النصوص المقدسة اليهودية يُظهر تقاليد غنية ومتطورة، تم تشكيلها من خلال سياقات تاريخية وفكرية متنوعة. ومنذ زمن موسى حتى العصر الحالي، تستمر هذه النصوص في كونها وثائق حية تُشكل الهوية اليهودية والممارسة الدينية والفكرية.
إياد شماسنة