Logo

اللغة العربية وفلسطين جذوتا مهرجان أفينيون

 يُعتبرُ مهرجان أفينيون السنوي للمسرح، في جنوب فرنسا، أهم وأكبر تظاهرةٍ ثقافيةٍ عالميةٍ بامتياز. بُرمجَ فيه هذا العام 1700عرض مسرحي وفني، لمدة أسابيع ثلاثة. من يتصور ذلك؟ 
تتحول المدينةُ كلها أثناءَهُ إلى أرضٍ للمهرجان، إلى «أجورا» تفاعلاتٍ إنسانيةٍ ليلَ نهار. كل كنائس المدينة، كلها فعلا، كل مدارسِها، سينماتها.. جبالُ المدينة المحيطة، وضواحيها أيضا، تتحول جميعُها إلى مسارح إضافية.
انطلق المهرجان، قبل ثمانين عاماً، من فكرةٍ طوباويةٍ لا تخطر إلا ببال كبار شعراء وفنانين شيوعيين من «الزمن الجميل». 
بدأت شرارةُ الفكرة بالشاعر الشيوعي روني شار، الذي أراد أن تُقام مسرحيةٌ باريسية شهيرة، للمسرحي البريطاني إليوت، من إخراج الشيوعي جون فيلار: «موتٌ في الكاتدرائية»، في قاعة الشرف في قصر البابوات في أفينيون، 
حيث تربعَ سبعةُ بابوات على الكنيسة الكاثوليكية في القرن 14، قبل عودة البابوية إلى روما! حوّل فيلار الفكرة إلى مهرجان، أضحى بفضلِهِ قائده ورمزه الخالد. رافقَهُ في مشروعه، فريقٌ تاريخي من كبار الممثلين، في مقدمتهم رفيق فيلار الحميم، الشيوعي جيرار فيليب.
ليس هناك أفضل من رولان بارت، الذي لخصَ فكرة أفينيون، و«المسرح الوطني الشعبي» عموما، في كونها أرضٌ لمسرحٍ طليعي جديد ألغى اعتبار المسرح نشاطاً خاصاً للبورجوازية في باريس فقط، يقدم لها وجبات مسرحية جاهزة.
مسرحٌ جماهيري يحضره أوسع عددٍ من الناس، يُقدِم أهم روائع المسرح العالمي وقمةَ الإبداعات الأدبية، في إطار «مسرحٍ مفتوح» بالمعنى الأدبي للمصطلح، يُغذي التفكير ويؤجج الجدل والتأويلات..
في سنتهِ التاسعة والسبعين هذه، توجَ المهرجانُ اللغةَ العربية ضيفَ شرفٍ له (بعد ضيفين في العامين السابقين: الإنكليزية والإسبانية). لكنها لم تكن ضيفاً تقليدياً هذه المرة، فبالإضافة لإشعاعِها التاريخي الذي احتفل به المهرجان بحيوية، 
كان لاستضافتها بُعد نضالي لا يُخفى عن العين المجردة: أكدَ المهرجانُ بفضله أن الفن يظل أفضل سلاحٍٍٍ ضد العنصرية والغطرسة والظلمات. فإلى جانب إشعاعِه الإبداعي، 
مثّل المهرجان ردةَ فعلٍ حميدة ضد هجمات قوى اليمينِ المتطرف العنصري، وبعضِ الأنظمة النيوليبرالية، التي تكيل قِيَمَها الأخلاقية بمكيالين، وهو يضع اللغةَ العربية وفلسطين ومعاناةَ غزة في قلب نشاطاته.
 فمن أفضل من الثقافة كسلاحٍ فاعلٍ لِمقاومة رداءة وشرورِ العالم؟ إذ ما زال العربي (مهما كان انتماءُ تدينِه، أو عدمُ تدينِه)، في هذه الأنظمة، يُوصمُ من تلك القوى، على نحوٍ جوهراني فاحش، بهذا المصطلح الاستعماري: العروبي- الإسلامي arabo-musulman!
وكل من يقف ضد السياسات اليمينية الرجعية، المتضامنة مع الإبادةِ الجماعية للفلسطينيين في غزة، يُوصمُ منها اليوم، بغض النظر عن جنسيته، 
بهذا المصطلح الموبوءِ الحديث: «اسلامو-يسارجي» islamo-gaushiste (الذي رفضَه رسمياً المركزُ القومي للأبحاث العلمية عندما استخدمه وزيرُ تربيةٍ وتعليمٍ فرنسي سابق).
لم يكن المهرجانُ خجولاً إطلاقاً في إعلائهِ القيمةَ الحضارية التاريخية للغة الضاد، وفي تضامنهِ مع شعب فلسطين. فقد استطاع المخرج البرتغالي ـ الفرنسي تياجو رودريغيز، مدير المهرجان، «تحدي الخوف ومواجهته»، كما قال جاك لانغ، 
وزير الثقافة الفرنسي في عصر فرانسوا ميتران، ورئيس معهد العالم العربي حالياِ، ومؤلف كتاب «اللغة العربية كنز فرنسا» (ترجمهُ إلى العربية معجب الزهراني).
تجلياتُ تألق العربية وفلسطين هذا العام لا عدّ لها: عددٌ هائلٌ من أهم العروض الفنية كان بالعربية ووفاءً لها. الاحتفالاتُ في عددٍ واسعٍ من الفعاليات الناجحة الرائعة بالشعر العربي، قديمه وحديثه، 
وبالشعر الفلسطيني لاسيما شعراء غزة، كان اختياراً ألمعياً حكيماً من إدارة المهرجان: فالشعرُ رأسُ حربة الثقافة الذي يشفطُ اللب ويأسرُ المشاعر، يُحركُ الفكرَ والوجدان معاً.
كل عناوين المهرجان مكتوبةٌ بالفرنسية والعربية، امتلأتْ فعالياتهُ المنعقدة في أهم بؤرِ نشاطات المهرجان اليومية مثل: «دير سان لويس»، «منزل جون فيلار» وحدائق المهرجان، باللقاءات وبقراءات النصوص الشعرية بالعربية والفرنسية معا،
 وبالبرامج الثقافية التي تنشرها الإذاعات الفرنسية، وبالندوات عن مأساةِ غزة وفلسطين (كندوةِ الفلسطيني إلياس صنبر مثلاً). 
الحديثُ عن واقع اللغةِ العربية: اللغةِ الثانية في فرنسا، كان ثرياً أيضاً. لم يخلُ من شهادات مؤثرة، كشهادةِ الروائية ليلى سليماني، الفائزة بجائزة الغونكور الفرنسية في 2016، 
وهي تقول: «لا، لا أتكلم العربية، وأخجلُ من ذلك. أنا أميةٌ في لغتي! كم شعرتُ بالخجل عندما لم اتمَكن من إملاء استمارةٍ في المغرب، البلدِ الذي وُلدتُ فيه. شعرتُ بالإهانة عندما لم أستطع تقديمَ كتبي دون مترجم. إن ذلك نتيجةُ التاريخ».
من المهم القول هنا، إن احتفال أفينيون باللغة العربية لا يلزمُ أن يُنسينا وضعَها المزري في العصر الرقمي: لغةٌ مدونتُها الرقمية Corpus ضعيفة المحتوى، 
لم تعد قادرةً على مواكبة مصطلحات وقوالب وجديدِ العِلم الحديث الذي يُدرس في البلدان العربية بِلغاتٍ أجنبية، لا تمتلك «قارئاً ضوئياً» OCR… 
في قلبِ العروض الدولية الكبرى للمهرجان (ما تُسمى بِعروض الـON) عددٌ واسعٌ من العروض المسرحية والثقافية العربية من المغرب، لبنان، فلسطين، تونس، فرنسا، بلجيكا، سوريا، مصر، العراق.. وكذلك ضمن العروض المسرحية المحلية (عروض
الـOFF) للمهرجان أيضا، مثل المسرحية الكلاسيكية «بيرينيس»، لجان راسين، التي نُطِقتْ حواراتُها باللغتين الفرنسية والعربية تناوباً.
أما أبرز العروض الفنية الدولية التي أقيمتْ في قاعة الشرف في قصر البابوات، ذات الألفي مقعد، فقد جاء من البرتغال وجمهورية الرأس الأخضر، ومن مصر.
الأول: كوريغرافيا (رقصٌ فني) بعنوان Nôt، من تأليف مارلين فريتاس، يستحضر من الملحمة العربية الخالدة «ألف ليلة وليلة» فكرةَ الصراعِ ضد الموت بالكلمة والفن. 
والثاني: احتفالٌ بمرور خمسين عاماً على وفاة أم كلثوم، أُقيمَ يومَ عيد الثورة الفرنسية 14 يوليو/تموز! إلى جانب كل ذلك، لم يخلُ المهرجانُ من عروضٍ مسرحية خالدة، 70% منها إبداعاتٌ تُعرضُ لأولِ مرة، مثل «البطة البرية» للنرويجي إبسن،
 من إخراج سليل برتولت بريخت: توماس أوسترمايير، أو «مسافة» لِتياجو رودريغيز، أو «الحذاء المخملي» لبول كلوديل، من إخراج مدير «الكوميديا الفرنسية» إيريك روف (تدوم المسرحيةُ ثماني ساعات!).
بدأت فعاليات هذا العام ببيانٍ أصدرهُ فنانو ومبدعو المهرجان، لإدانةِ الإبادة الجماعية في غزة. للتذكير في 1995، قبل 30 سنة بالضبط، اجتمع كل رجال الثقافة والمبدعين في مهرجان أفينيون، 
وأصدروا بياناً لاستنكار التطهير العرقي في البوسنة. تغيرتْ مواقف الدول بعده، ولعب دوراً مهماً في محاكمة المجرمين.
بعد أسبوعٍ من بيان غزة، انعقدَ تجمعٌ عام أمام قاعة الشرف في قصر البابوات، وخرج بِبيانٍ جديد (بخمس لغات)، وبِنداءٍ موجهٍ لرئيسِ فرنسا الحالي، ليفعل ما فعله رئيس 1995 (شيراك) الذي أشاد بالبيان آنذاك.
يتضمنُ البيان الثاني إدانةً مجددةً كليةً لجرائم حرب إسرائيل في غزة، لإبادتها الجماعية للفلسطينيين، ولِجرائمها ضد الإنسانية، 
ويطالبُ دول الجمعية الأوروبية بوقف تطبيق الاتفاقات المشتركة مع إسرائيل، «مؤلمٌ جداً، بعد 30 عاما، التذكيرُ بأن حياة الفلسطيني، تساوي حياة الإسرائيلي، تساوي حياة كل إنسان»؛ يقول البيان في نهايته.
أخيراً، مَن أروعُ من الذي جلجلت في منزل جون فيلار (بأصوات فريقٍ عربي فرنسي مختلط) العديدُ من قصائدِه الحديثة، أو القديمةِ أحياناً مثل «أنا عربي»: محمود درويش الذي حلقَ طيفُه يومياً في أفينيون، 
والذي اكتسحتْ قصائدُهُ باللغتين إعجابَ الجميع، من أروعُ منه لِتكثيف روح هذا المهرجان الخالد، منذ ولادته قبل 79 سنة، هو الذي قال «أنا أنتَ في الكلمات»، شعارَ المهرجان الدائم، لاسيما هذا العام؟

 حبيب سروري
كاتب يمني