Logo

المهرجانات الثقافية العربية.. هل الصمت تضامن أم انسحاب؟

 في خطوة لافتة حملت بُعداً أخلاقياً وسياسياً، أعلنت بلدية صيدا في جنوب لبنان إلغاء مهرجانها السياحي السنوي في صيف 2025، تضامناً مع غزة التي تتعرض لإبادة مستمرة. القرار لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل تعبيراً واضحاً عن رفض الفرح العام في وقت تتساقط فيه البيوت على رؤوس ساكنيها. 

المدينة التي شكّلت ذاكرتها من الميناء والملح والحروب، قررت أن تصمت. لا انسحاباً من الحياة، بل احتراماً لحياة تُباد على مرأى من العالم.

في المقابل، قررت لجنة "مهرجانات صيدا الدولية" الاستمرار في برنامجها الفني تحت شعار "راجعين بلحن كبير"، مؤكدة أن الفعاليات ليست للاحتفال، بل لتكريس الصمود والتذكير بما يحدث، ولكن بلغة الفن لا الرصاص. 

وقد أتى الموقف المحلي متعدد الاتجاهات؛ إذ عبّر "منتدى سبعين" الثقافي في صيدا عن رؤية مختلفة، معترضاً على الصمت بوصفه خياراً، معتبراً إلغاء الفعاليات انسحاباً أكثر منه تضامناً، وداعياً إلى تحويل أدوات الحياة نفسها، كالموسيقى والمسرح، إلى مساحات للموقف والرفض.

الأسئلة الكبرى التي فرضها هذا المشهد لم تكن تقنية ولا تنظيمية، بل أخلاقية وثقافية: ما دور الفن حين يكون العالم في حالة حداد؟ هل يسكت الفنان؟ أم يغنّي ليُذكّر؟ وهل يصبح الأدب أو الموسيقى خيانة حين لا يكون الحزن علنيا؟

من بيروت إلى غزة

في مقابل ذلك، اختارت مهرجانات كبرى مثل "بيت الدين" و"بعلبك" أن تستمر، لكنها غيّرت خطابها. حفلاتٌ افتُتحت برسائل مهداة إلى الشهداء، وأغانٍ مزجت التراث اللبناني بصور نكبة غزة. 

في نسخة 2021، مثلاً، افتُتح العرض بموال وديع الصافي مرفقاً بصور الدمار، في تأكيد على أن الفرح قد يكون وسيلة تذكير لا أداة نسيان.

في خلفية هذه الحوارات، برز الأدب مجالا لا يقل أهمية عن المسرح والغناء. في زمن الأزمات، تتحول القصائد والروايات واليوميات إلى شكل من أشكال النجاة. 

غسان كنفاني، تمثيلاً لا حصراً، لم يرَ في الرواية ترفاً نخبوياً، بل أداة مقاومة. والكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي كتب روايته "قناع بلون السماء" من داخل زنزانته، وفاز بها بجائزة البوكر العربي لعام 2024. 

الأدب هنا ليس فعلاً جمالياً، بل سياسيّ بالمعنى العميق: أن تقول "أنا هنا" في وجه الإبادة.
 
من غزة إلى بيروت وتونس، يتعدد شكل التضامن الثقافي. في غزة، تُكتب النصوص تحت الأنقاض. في بيروت، تُقام أمسيات شعرية فوق أطلال الأبنية. 

وفي تونس، ينظّم الطلاب جلسات قراءة جماعية لكتب فلسطينية في المقاهي، في محاولة لإحياء ذاكرة تُحاصَر كل يوم.

ثقافة لا تصمت

المشهد العربي يقدّم بدوره مؤشرات واضحة على أن الفعل الثقافي ليس على الهامش. في الجزائر، أُلغيت المهرجانات الصيفية عام 2024، وتم تحويل ميزانياتها لدعم القطاع الطبي في فلسطين. 

وفي تونس، طالب محتجون بإلغاء مهرجان قرطاج، رافضين ما وصفوه بـ"خشونة الفرح". مغني الراب Balti عبّر عن ذلك بقوله: "مش لازم نغني والدم ما نشفش. مش لازم نرقص والشعب في كفن".

المشهد الدولي ليس مختلفاً، فقد ارتفعت أصوات تطالب بعزل إسرائيل ثقافياً. أكثر من 70 فناناً من مشاركي Eurovision السابقين طالبوا بمنع إسرائيل من المشاركة في المسابقة، متهمين الحدث بـ"غسل سياسي للإبادة". 

من بين هؤلاء، الفنان الأيرلندي Charlie McGettigan، الفائز عام 1994، الذي قال بوضوح: "أعتقد أن إسرائيل ترتكب إبادة ضد الفلسطينيين، ولهذا يجب منعها من المشاركة".

كل هذه المواقف، رغم اختلاف أشكالها، تتقاطع عند فكرة واحدة: الثقافة ليست محايدة، بل في قلب الصراع. 

حين تتراخى السياسة، تبقى الموسيقى صادقة، والكلمة قادرة على النجاة. ليس المهم أن نغني أو نصمت، بل أن نعرف لماذا نفعل أيّاً منهما.

أن نلغي لأننا نرفض النسيان، أو نغني لنُذكّر. كلاهما خيار أخلاقي إذا اقترن بالوعي.

نسرين النقوزي
كاتبة ومُدوِّنة لبنانية