صنع الله إبراهيم الروائي المجدد الذي لم يهب السجن
اكتسب صنع الله إبراهيم شعبية كبيرة خارج الأوساط الأدبية بعد أن رفض جائزة الدورة الثانية لملتقى الرواية العربية عام 2003. وتحول موقفه هذا إلى علامة فارقة في مسار العلاقة بين المثقف والدولة، وأعاد الاعتبار لمفهوم "استقلالية المثقف".
جاء رفضه الجائزة في بيان شهير ألقاه على مسرح دار الأوبرا المصرية، قال فيه إن "الحكومة المصرية التي تمنح الجائزة لا تملك مصداقية منحها"، معلناً اعتذاره عن عدم قبولها لأنها صادرة "عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد".
شكّل هذا البيان أول معارضة جذرية معلنة لنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ووجّه نقداً حاداً للمؤسسة الثقافية الرسمية آنذاك.
ومما قال: "لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب.
وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته".
عرفت أعمال الراحل شعبية واسعة بعد أن تحولت روايته "ذات" إلى مسلسل تلفزيوني حظي بجماهيرية كبيرة، قامت ببطولته نيللي كريم، وأخرجته كاملة أبو ذكري.
حافظ إبراهيم طوال حياته على التزامه كمثقف طليعي متمسك بالاستقلال، ولعله أول كاتب مصري يتفرغ تماماً للعمل الأدبي بعد سنوات عمل قضاها في النشر والصحافة مع إحدى وكالات الأنباء العالمية.
يرجع نقّاد هذا الالتزام إلى سنواته الأولى، إذ انتمى خلال دراسته في كلية الحقوق إلى تنظيم "حدتو" اليساري، وسُجن لخمس سنوات بسبب ذلك الانتماء وقد ظل السجن،
كما يقول في افتتاحية كتابه السيري "يوميات الواحات" هو مصدر كافة تجاربه أو كما قال: "السجن هو جامعتي. فيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان،
وتعلّمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضاً قررت أن أكون كاتباً".
صور متناقضة
على رغم التزامه السياسي، احتفظ صنع الله إبراهيم برؤية متناقضة تجاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأظهر اشتباكه معه في رواية "1970" ،
وعكست أعماله أصداء التزامه بفكرة الواقعية، وبخاصة في روايات تناولت تجارب السجن مثل "شرف"، "التلصص"، و"يوميات الواحات".
وتميّزت هذه الأعمال باشتباكها مع سيرته الشخصية من جهة، ومع المتغيرات السياسية والاجتماعية من جهة أخرى.
في المقابل، أنتج صنع الله رواية تجريبية الطابع، وانفتحت كتاباته على أساليب سردية جديدة على الأدب العربي، مثل تقنية الكولاج والكتابة التوثيقية،
كما في كتابه "إنسان السد العالي" الذي شارك في تأليفه مع رؤوف مسعد وكمال القلش، ووثّق فيه تفاعل العمال مع مشروع بناء السد العالي.
وتأثر بالجو الكافكاوي، بخاصة في روايته الأولى "تلك الرائحة" التي حظيت باهتمام نقدي واسع، على رغم مصادرتها لاحقاً،
وواجهت نقداً علنياً قاسياً من القاص يحيى حقي، الذي قال في عموده بجريدة "المساء": "تقززت نفسي من هذا الوصف الفيزيولوجي تقززاً شديداً... إنني لا أهاجم أخلاقياتها، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته، هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته".
في حين دعمها يوسف إدريس مؤكداً أنها "ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة".
تناقضات البرجوازية الصغيرة
مثل العديد من كتّاب جيله، اهتم صنع الله بنموذج كاتب الطبقة الوسطى وتناقضاته، بخاصة ما يتعلق بالجنس. في حين اتسمت لغته بالتقشف، وابتعدت عن البلاغة، فكانت أقرب إلى السرد اليومي،
وغالباً ما كُتبت بضمير "الأنا"، مما جعلها حميمة في صلتها بالقارئ. بعد روايته الأولى، كتب ما أطلق عليه الناقد محمود أمين العالم "ثلاثية الرفض والهزيمة"، التي تبدأ بـ "نجمة أغسطس"، وتتواصل في"اللجنة"، وتكتمل مع رواية "بيروت... بيروت".
وعلى خلاف الكثير من الروائيين المصريين، اهتم صنع الله بمقاربة موضوعات عربية شائكة، مثل الحرب الأهلية اللبنانية، التي تناولها في روايته "بيروت بيروت" (1984)، والتي مثلت نقطة تحوّل بسبب نزعتها الطليعية.
أما روايته "وردة" في نهاية التسعينيات، فكانت بمثابة رثاء لخيبات جيل القوميين واليساريين العرب، بعد فشل اليوتوبيا التي راهنوا عليها في ثورة ظفار في سلطنة عُمان، وكانت تستدعي سيرة بطلة حقيقية.
شغف بالتاريخ
ابتداءً من رواية "أمريكانلي"، أظهر صنع الله اهتماماً واضحاً بالتاريخ وتناول في "العمامة والقعبة" و"القانون الفرنسي" التفاعلات التي أنتجها دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798.
وكان من أوائل الروائيين الذين التفتوا إلى شخصيات تاريخية مثل المعلم يعقوب والمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، بما تحمله من نزعات درامية قابلة للتأويل الأدبي انسجاماً مع مشروعه في رصد التوتر بين ما هو مرجعي وتاريخي وما هو متخيل.
في سنواته الأخيرة، نشر الراحل أعمالاً إبداعية استندت إلى تجاربه الشخصية في مدن مثل موسكو وبرلين، واستفاد فيها من اليوميات التي كتبها خلال ابتعاثه لدراسة السينما ثم عمله بالصحافة لفترة قصيرة.
من جهة أخرى، لم تحظَ تجربة صنع الله إبراهيم في كتابة الأطفال باهتمام كبير، على رغم أنها امتدت لسنوات، وصدر غالبها عن دار الفتى العربي التي توقفت منتصف التسعينيات.
وكذلك لم تجد تجاربه في الترجمة صدى يوازي أعماله الأدبية، على رغم النجاح الذي حققته مختاراته المترجمة "التجربة الأنثوية"، ذات النزعة الجندرية، والتي أولت اهتماماً بالجسد، ومفاهيم الذكورة والأنوثة في مجتمعات متنوعة.
وهي أمور ليست بعيدة عما عمل على ترسيخه في كتاباته التي نالت رواجاً في العالم العربي وحظيت بجوائز عدة أهمها جائزة سلطان العويس وجائزة ابن رشد للفكر الحر وجائزة أهلية للمثقف المستقل 2016.
سيد محمود
باحث مختص في الشأن الثقافي