Logo

احتكار مفهوم الحضارة.. الغرب وتاريخ الإبادة الثقافية

 يدرس الباحث الإثنولوجي الفرنسي روبير جولان الإبادة الثقافية التي تقود إليها ممارسات غربية، وتهيمن على الحضارات غير الغربية، من خلال تفكيك سرديات الاستعمار التي تختزل ثقافة البلدان المستعمَرة في "الفلكلور"، 

وهو ما يناقشه في كتاب "الغرب نقيضاً للحضارة" الذي صدر بترجمة عربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

الكتاب نصوص مختارة للباحث، مع مجموعة من المؤلفين، بترجمة مراد دياني الذي يعرض في تقديمه مقولة مفادها أنّ عمليات الإبادة الجماعية التي حدثت ضدّ الهنود الأميركيين الأصليين، لاستيطان أراضيهم،

 كانت تهدف إلى تصوير أميركا "أرضاً بلا شعب"، لـ"شعبٍ بلا أرض" يستوطن فيها، وهو توصيف يتطابق مع المشروع الصهيوني لإبادة الفلسطينيين واستيطان أراضيهم. 

وتوضح التوطئة أنّ الإبادة التي حدثت ضدّ الهنود الأميركيين لم تكن فقط عمليات القتل المباشر أو القتل الجرثومي، ولم تنتهِ مع انتهاء المذابح، إنما استمرّت في أشكال غير مرئية،

 مثل حملات الكراهية، وطمس المعالم التاريخية، والإبادة ضد اللغات والثقافات الهندية، ووضع الأطفال الهنود في مدارس داخلية تتبع مناهج عسكرية، مع تصالح مشروط مع فكرة وجودهم؛ بالتخلي عن لغتهم، وكأنهم أقوام خلت.
 
هذه المقدمة تَسِمُ الكتاب، بخاصة أنّ الباحث اقتبس مصطلح الإبادة العرقية من باحث آخر، وهو جان مالوري، كي يعبّر عمّا أراد قوله في الإبادة الثقافية، 

بالتنويه إلى رفض لجنة الأمم المتحدة مصطلح "الإبادة الجماعية الثقافية" عند وضع ميثاق الأمم المتحدة في عامَي 1947 و1948، بحجة أن ذلك قد يلحق الأذى بمفهوم الإبادة الجماعية بمعناه الصارم، وهو القتل الجسدي الجماعي.
 
إذاً، يستخدم الباحث مصطلح الإبادة العرقية ليفيد بوقائع الإبادة الثقافية. والإبادة العرقية، بالتعريف الذي يتبنّاه الكتاب، هي في جوهرها تدميرُ الحضارة الغربية للحضارات التي توصف بأنها بدائية. 

كما ينظر الباحث إلى الحضارة الغربية على أنها حضارة أحادية، تدفع الحضارات الأخرى إلى الاندماج فيها، على مستوى نظمها السياسية والاقتصادية وحتى في العادات اليومية، ويرى أيضاً أنّها تأسّست على العنف والإنكار.

يأخذ جولان من كتاب مادة التاريخ الفرنسي مثالاً يستخلص بمعونته بعض الأدوات الاستعمارية المركزية في عرض الحضارات غير الغربية ومحوها، بتوضيح عمليات إضفاء القيمة أو تبخيسها عند الحديث عن ثنائية المستعمِر/ المستعمَر.
 
ما يظهر في الكتب المدرسية الفرنسية هو إعفاء فرنسا من مسؤولية استعمار الجزائر، بتحويل الغزو الاستعماري إلى حرب، بما يعنيه هذا التوصيف من نزاع بين طرفين. إذ تقدّم المناهج الدراسية الغزو بوصفه حرباً، ويصبح في هذا السياق من المفهوم تحميل المسؤولية للخصم، 

وهو هنا الجزائر، ما يمهّد لفكرة أخرى، وهي إضفاء الشرعية على الاستيلاء على الجزائر، الذي يظهر كما لو أنه "إضفاء قيمة" بتحويل شعب إلى منحى "الحضارة". 

وكل تفصيل في المناهج ينحو نحو جعل التلميذ الفرنسي يسلّم بأشكال الإبادة العرقية/الثقافية بحق الآخرين، بدعوى نشر الحضارة، بالتوازي مع إخفاء جميع الحيثيات الاقتصادية والسياسية التي رافقت الاستعمار، وهي حقيقته الفعلية.

من تلك الأساليب في رسم هذه الصورة المخادعة عن الحضارة الغربية، أنّ الكتب المدرسية لا تأتي على ذكر وجود السِّلم في المستعمرات قبل الحرب الاستعمارية، بل تعرض الحياة قبل الاستعمار، قبل وصول "الحضارة"، 

على أنها حياة مليئة بالاضطرابات الدائمة، فيظهر إرسال المستعمرين كما لو أنه طريقة لإرساء السِّلم.

مع ذلك، يشير الكتاب إلى إطار أوسع يتضمن محو الخصوصيات الثقافية المحلية، الذي يقود إليه اقتصاد السوق، وثقافة الاستهلاك، وحكم الشركات الكبرى. والحضارة أخيراً، بصفتها تنوعاً وتعدداً وغنىً ثقافياً، لم تعد سوى نقيض ذاتها: نقيض الحضارة.

سومر شحادة
روائي من سورية