أقنعة التاريخ في السرد الروائي العربي
إن استحضار أحداث بعينها، أو بطل معين، في الرواية التاريخية؛ يكون من أجل توجه ما يرومه المؤلف في عصره، يقدمه لأبناء مجتمعه وثقافته، ولكن هذا لا يعني أن النص مكتمل كما أراده الكاتب، بل إن هناك ما يسمى بـ»فضاء النص»، الذي يتشكل من مجموعة من العلاقات المتواشجة، التي تعكس إمكانات عديدة للقراءة، بجانب وجود مستويات للفضاء النصي، ممثلة في الوجود العضوي للنص، الذي يشتمل على معطيات ترد في نسق ما، أو صياغته للفضاء الذي يتحول بفعل القراءة إلى نسق زمني.
ويأتي المستوى الثاني خلال القراءة عبر تشكل صورة ذهنية أثناء زمن القراءة، تتضمن الخصائص الشكلية للشخصية، أو الحدث التاريخي كما تم رسمه روائيا، ومن ثم تكون هناك أكثر من رؤية كلية أو جزئية، لفهم الرواية التاريخية.
ففي أثناء صياغة الفضاء النصي من قبل المبدع، يتشكل نسقه الزمني في التلقي، أي قراءته بموازاة التاريخ، ما يتيح للقارئ معايشة العمل في الخيال، حتى يتسنى له تحليل مضمونه، وتفسيره.
فإذا كانت الرواية التاريخية تعتمد على التاريخ كمادة، وعلى الخيال في صياغة هذه المادة؛ فإن القارئ لديه تاريخه الخاص في زمنه الآني، يتلقى من خلاله السرد التاريخي في الرواية، مثلما أن لديه خياله الخاص الذي يتلاقى مع خيال الرواية.
وإذا نظرنا إلى كثير من الروايات التاريخية في أدبنا العربي، في ضوء التمثيل الثقافي، في بعده السيميائي، وضمن تلقي القارئ له؛ فإننا سنجد عشرات الشخصيات التاريخية التي لا تزال في مخيلة القارئ العربي،
مثل شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي، بطل موقعة حطين، أو شخصية السلطان سيف الدين قطز، أو حتى الأبطال المناضلين ضد المحتل الأجنبي، مثل شخصية عمر المختار، أو الأمير عبد القادر الجزائري،
فكلها شخصيات مدعاة للفخر والاعتزاز في الزمن الحاضر، ولتعلم الأجيال الجديدة أن آباءها وأجدادها كافحوا وناضلوا وصنعوا تاريخا مشرفا.
وقد تعددت الآراء بصدد وجود الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث في صحوته في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ومع قدوم القرن العشرين، فهناك من يرى أن الرواية التاريخية ظهرت نتيجة التلاقح الفكري والإبداعي والثقافي، الذي حدث بين الأدب العربي والآداب الغربية، وقرأ الأدباء العرب الروايات التاريخية فيها، فسعوا إلى احتذائها، والسير على منوالها،
فالأمر بدأ بالاطلاع، ثم الترجمة والاقتباس، وصولا إلى التأليف، وتمت الترجمة والاقتباس على أيدي أبناء الشام أولا في سوريا ولبنان، الذين اتصلوا بالآداب الغربية، ونقلوا عنها فنون المسرح والرواية، ثم اشترك معهم أبناء الكنانة وغيرهم من أبناء الأمة العربية إلى يومنا.
يعتمد هذا الرأي على منظور الشكل الأدبي، الذي يرى أن المبدعين العرب في العصر الحديث، نقلوا الأشكال الأدبية والمسرحية والقصصية والروائية من الغرب مباشرة، وأنه لا يمكن أن يكون الإبداع المعاصر امتدادا لإبداعات التراث. وهو بالفعل رأي له وجاهته، فجل الأشكال الإبداعية العربية الحديثة: مكتوبة كانت أو مرئية أو مسموعة، متأثرة بشكل مباشر بالآداب والفنون الغربية.
والاتجاه الثاني يتخذ من الإبداعات الروائية العربية التاريخية أدلة على أصالة هذا اللون في ثقافتنا، بدليل أنه اعتمد على التراث العربي وتاريخه الممتد في تقديم إبداعات رائعة، ما يحمل أي باحث محايد، ينتهج التفكير العلمي على أن هذا الفن له جذوره الراسخة في الأدب العربي القديم، ممثلا في المقامات وألف ليلة وليلة والسير الشعبية والسرديات التاريخية وغيرها،
وأن ما تم إبداعه حديثا إنما هو امتداد طبيعي للموروث القديم. فمن الخطأ قياس أدبنا على آداب الأمم الغربية، وإنما يقاس على مزاج الأمم التي يعبر عنها، ويتوجه إليها المبدع الروائي، معبرا عن أحلام هذه الأمة، واعتزازها بتاريخها، وما يجري في خواطرها.
وهذا الاتجاه ينظر إلى تلقي الأمة العربية للرواية التاريخية، وكيف أن الأدباء العرب صاغوا رواياتهم وفق مزاج التلقي ومنظومته وذائقة العرب، ولا يعول كثيرا هنا على الشكل الروائي في تقنياته وفنونه، وإنما يُنظَر إلى خصوصية الأدب المنتج عربيا.
وهي في العموم وجهة نظر فيها غيرة محمودة، ظهرت عندما اشتدت صيحات وشعارات النظر إلى الآداب الغربية بوصفها نموذجا يحتذى به عالميا، ما يضيع ويميّع الشخصية الأدبية العربية، ويجعل الأدباء متعلقين بالغرب نفسيا.
أما الاتجاه الثالث فهو توفيقي، بين الاتجاهين السابقين، بين التراث العربي المستوحاة منه الروايات التاريخية، والشكل الروائي المقتبس من الغرب، حيث «تمخض الوعي عن حركة مزاوجة كبرى بين القصص القومي القديم، بألوانه التقليدية والعصرية والشعبية والتجارية، والمثل العليا الغربية والإنسانية للقصة».
إن الرواية التاريخية العربية تطورت منذ نشأتها وإلى يومنا، لتتخذ ثلاث مراحل، تمتاز كل مرحلة بسمات فنية وفكرية وموضوعية، وهي: مرحلة النشأة، أو الرواية التاريخية التقليدية.
وقد جاءت الرواية التاريخية فيها لأغراض التعليم، بالتعريف بالتاريخ العربي والإسلامي، أو للتسلية من خلال قصص الحب والسير الشعبية التراثية، أو للوعظ والإرشاد من خلال قصص دينية وتوعوية مستوحاة تاريخيا، أو من أجل جذب القراء لشراء الصحف والمجلات، ومن أبرز روادها: سليم البستاني، معروف الأرناؤوط، فرح أنطون، يعقوب صروف، محمد فريد أبو حديد.
والمرحلة الثانية وهي الرواية التاريخية الواقعية، التي نشأت في ضوء صعود تيار الرواية الواقعية، حيث تخطت مرحلة عرض التاريخ بغرض التسلية والترفيه أو التعليم، وعملت على توظيف التاريخ للتنظير في الواقع، متناولة القضايا الحياتية ومتغيراتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وبينت الصراع الإنساني في جوهره الحقيقي، وسلطت الضوء على ما يمكن أن يفيد الأمة في واقعها، وحاولت البحث عن الأسباب الحقيقية والدوافع في للسلوك الإنساني من منطلق تاريخي يحاكي الواقع، ويشابهه، وراحت تعمق صلتها بالواقع، من منظور تاريخي، ومن أبرز مبدعيها: نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير، خاصة أنها جاءت مع فترة ارتفاع الكفاح والنضال ضد المستعمر الأجنبي.
والمرحلة الثالثة: ويطلق عليها الرواية التاريخية الجديدة، التي استفادت من تقنيات الشكل الحداثي للرواية، مع تقديم أحداث التاريخ برؤى مختلفة، من خلال تمزيق الحبكة الروائية في بنيتها الزمنية وترابط أحداثها،
وتقترب من الرؤية الدرامية الشعرية والمسرحية، وشيوع الرؤية الذاتية الداخلية، مع غموض الأحداث وصراعها مع الواقع المعيش، ووجود إشكالات فكرية وفلسفية تعالجها،
ومن أبرز مبدعيها واسيني الأعرج، جمال الغيطاني، سليم بركات، رضوى عاشور، أحمد سليم عوض.
يمكن القول إن في العلاقة بين الرواية والتاريخ تشابكات وأبعاد عديدة، فما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، فالتاريخ – أيًّا كانت طرائق كتابته- هو سرد، والرواية مادتها الأساسية هي السرد، وإن تنوعت أساليبه وتعددت موضوعاته.
كما أن البشر هم موضوعهما المشترك، فالتاريخ يحكي عن أحداث وشخصيات ووقائع بشرية، والرواية تقتصر موضوعاتها على الإنسان، حتى إن كانت قصصا منطوقة على ألسنة الحيوان، فغايتها أن يستوعب المتلقي الحكمة من ورائها.
ويحضر في الخلفية المشتركة بينهما الزمان والمكان وسائر الموجودات، فما دام هناك حدث، فإنه مؤطر بمكان وزمان، بما فيهما وعليهما من أشياء ومكونات.
ولا شك أن الرواية العربية التاريخية الحديثة أحدثت تراكما وإنجازا كبيرين، فعمرها يمتد لأكثر من قرن ونصف، وتعدّدَ كتّابها، وتنوعت موضوعاتها، ما بين التاريخ العربي الإسلامي، وتاريخ الحضارات السابقة على الإسلام.
كما تنوعت طرق السرد، ومراحل الإبداع، والقضايا المثارة، وكلها وإن صوبت عيناً نحو الماضي، إلا أنها ترنو إلى حاضرها،
فالرواية التاريخية تقرأ في سياقات عصرها، على مستوى الأفكار والتلقي وهموم الأمة والوطن. وتقرأها أيضا الأجيال اللاحقة بوعي مختلف، ورؤى مستجدة.
مصطفى عطية جمعة