ذاكرة الحرب في تغريبة اليمن الحديث
يمثّل المشهد الروائي اليمني الحالي في جانب من جوانبه امتداداً لتجارب شهدت تطوراً في اللغة السردية في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، لكن ما يميّزه اليوم هو اتساعه من خلال حضور أصوات جديدة وتنوّع ثيماته، وإن ألقت الحرب ظلالها على مستوى توثيق أزمة الفرد والجماعة، ومساءلة الخراب الذي يعيشه الوطن.
تبدو تجربتا الكاتبين اليمنيين حميد الرقيمي في روايته "عمى الذاكرة" (منشورات جدل، 2024)، ووجدي الأهدل في روايته "السماء تدخن السجائر" (دار هاشيت أنطوان/ نوفل 2023)، متقاربتين في نقطة الانطلاق؛
الحرب باعتبارها جرحاً مفتوحاً، وذاكرة تستعصي على الالتئام.
ومع ذلك، يختلف مسارهما السردي في كيفية مقاربة هذا الدمار الداخلي، وفي البحث عن مخارج ممكنة من ضيق التجربة الإنسانية التي تنتجها الحروب.
لا يكتب الرقيمي عن الحرب، بل عن آثارها التي تستمر في الداخل بعد أن يسكت الرصاص. الرواية ترسم صورة لليمن بوصفه بلداً ممزقاً يودّع أبناءه نحو المنافي والبحار والصحارى.
من صنعاء التي تتحول إلى فضاء للموت، إلى عدن التي تصبح معبراً أكثر منها ملاذاً، إلى القاهرة حيث يبحث اليمني عن ظل نجيب محفوظ في أزقة بولاق، فلا يجد إلا مرآة منفاه، مروراً بالخرطوم وصحراء ليبيا وصولاً إلى البحر الذي يبتلع الأحلام والوجوه واللغات.
وكأنها تغريبة حديثة، لا تختلف كثيراً عن مآسي الماضي، لكنها أشد قسوة لأنها بلا نهاية منظورة.
في كل لحظة يهدّ الموت الأحلام والمساعي، ويجعل الهروب من الحرب مغامرة لا تقل خطورة عن البقاء فيها.
من هو خارج هذه الدائرة قد يرى في قرار الهروب ضرباً من اللامنطق، لكنه في الحقيقة اختيار بين موتَين. "عمى الذاكرة" شهادة حيّة على أن الحرب لا تنتهي بانتهاء الرصاص، بل تستمر داخل الإنسان، في ذاكرته وجسده ومصيره.
تتتبع الرواية مسار الشاب يحيى/بدر الذي تفقده الحرب أسرته الأولى، فينشأ في كنف أسرة بديلة مكوّنة من الجد الحكيم عبده حمادي وأم جديدة هي لطيفة، فيما يغيب الأب معظم الوقت بأسراره التي تنكشف لاحقاً.
يكبر يحيى مثقلاً بالفقد لكنه يجد في الجد والأم عزاء يمنحه شيئاً من التوازن. انتقاله إلى صنعاء للدراسة يفتح أمامه نافذة جديدة على الحياة، وهناك يتعرف إلى زميلته يافا التي تتحول إلى حبه الكبير ومرآته الأجمل في وسط الخراب،
غير أن الحرب تعود لتطيح بهذا الأمل وتضعه أمام خيارات صعبة لا تقل قسوة عن القتال نفسه.
يقرر يحيى مع مجموعة من الشباب مغادرة البلاد إلى أوروبا، غير أن الطريق لم تكن سالكة، بل مفروشة بالأهوال.
من مطار عدن بدأت الرحلة، لتتوقف محطاتها في القاهرة، ثم الخرطوم التي قادتهم إلى حدود ليبيا، حيث فتحت الصحراء أبواب التشرد والضياع على امتداد الأفق.
هناك دفنوا أول رفيق لهم بعدما أنهكته أوجاع الكلى حتى أسلم الروح. وقبل بلوغ البحر كانت عصابات التهريب في انتظارهم لتسلب ما تبقى لديهم من مال وأمل.
بينما الحرب لدى الأهدل لا تُحدِث شيئاً سوى أنّها تنكأ ما كان متصدّعاً قبل حصولها وتبعث ندوباً متجذّرة. بطل الرواية ظافر شخصية رمزية معاصرة، تتقاطع يومياتها مع تحولات اليمن ما قبل الحرب وخلالها،
ومع الهجرات الجغرافية والأبدية التي تفرضها على الناس. نتابعه في تنقّلاته التي تشبه جولات متواصلة في البحث عمّا هو غائب، عمّا لا نعرف له وجهاً أو شكلاً.
أثناء ذلك، تتفرّج السماء… تنظر ولا ترسل المعجزات، بل تنفث سجائرها على الأحياء في الأسفل، حيث الحرب والمعارك لا تتوقف، وحيث التواطؤ الاضطراري مع الموت يصبح السبيل الوحيد للنجاة.
تدور الرواية حول شخصية ظافر، الشاب الذي شكّلت طفولته الغريبة مساره كله، منذ دخول سمكة صغيرة إلى دماغه لتصبح رمزاً للتحكم في مصيره واختياراته.
اختار المسرح شغفاً ورسالة، بينما أراد والده له طريق الجيش. وحين يقدم عرضاً مسرحياً ترفضه المؤسسة الرسمية، يلجأ إلى ماله الخاص لتأسيس فرقته الخاصة، لكنه يصطدم بجدار الفساد والبيروقراطية، فتفشل تجربته.
تظهر شخصية نبات، حبيبته وممثلة فرقته، التي تنتهي بالزواج من ممثل إنكليزي تبنّى مسرحية ظافر بعد أن تجاهلها المسؤولون المحليون،
في إشارة إلى ارتهان الثقافة للهيمنة الأجنبية وتواطؤ الداخل ضد المبدع.
رغم قتامة المشهد، يختلف حضور الحب في الروايتين اختلافاً لافتاً. في "عمى الذاكرة"، الحب يتمثل في الفتاة يافا التي عشقها البطل، وذهب تحت القصف مع صديقه إلى بيتها، فمات الصديق في سبيل هذا الحب.
يافا تمثل خلاصه الفردي ونافذته إلى الأمل، القوة التي تدفعه إلى تحدي الموت نفسه. أما في "السماء تدخن السجائر"، فإن الخلاص لا يُتَخيَّل إلا بالحب، أو هكذا يُخيَّل إلى شخصياتها.
لكن هذا الحب لا يأتي عبر وجه واحد بل عبر وجوه نسائية عديدة: عبير، نبات، ناجية، كفاية، سلمى، أشجان هنا الحب ليس يقيناً، بل سلسلة من التجارب المختلفة، التي تعكس هشاشة البطل وافتقاده إلى المعنى الثابت.
يبقى السؤال: هل الحب مخرج من الحرب؟ في رواية الرقيمي، لم يكن الحب خلاصاً بل ضرباً إضافياً من الجنون، إذ زاد البؤس بؤساً، وجعل المصائر أكثر هشاشة في مواجهة الموت.
بينما في رواية الأهدل، الحب وإن تعددت وجوهه لم يقدّم خلاصاً نهائياً، بل مجرد محاولات متكررة لالتقاط المعنى وسط الفراغ والغياب.
نسرين النقوزي
كاتبة ومُدوِّنة لبنانية