إعادة اكتشاف الحرية.. صراع الإنسان والحيوان في ثلاث روايات
لم يعد حضور الحيوان في السرد العربي تفصيلاً عابراً أو زينةً جمالية تُضاف إلى المشهد، بل تحوّل إلى استعارة كاشفة تتسلّل إلى أعماق الذات، لتعبّر عن توتّر الإنسان بين الغريزة والعقل، وبين الرغبة في النجاة والخضوع للسلطة.
في الروايات العربية الحديثة، لم يعد الحيوان نقيضاً للإنسان، بل صورته المضمَرة، المرآة التي يرى فيها خوفه ومقاومته في آن.
مقاومة بالعنف الرمزي
يفتتح محمد الفولي روايته "طرق متنوعة لقتل النمل" (دار الشروق، 2025) من عتبة الطفولة، إذ ينخرط بطلها الصغير في لعبة مؤذية.
غير أنّ هذا الفعل البسيط يتجاوز طبيعته المباشرة، ليغدو تمثيلاً رمزياً لفعل الانتقام وقد انتقل من مستوى الإنسان إلى مستوى الحشرة. الطفل الذي يحاصرُه زوج الأم بعنف أسري قاسٍ، يجد في هذا القتل المتكرّر للنمل شكلاً من التعويض النفسي، تدريباً مبكراً على مقاومة سلطة تتربّص به في البيت.
لا يذهب الفولي نحو مسار فانتازي تقليدي يُحوّل البشر إلى حيوانات، بل يقترح مقاربة أخرى بأن النملة هنا ليست مجرد كائن صغير يُسحق بلا مبالاة، بل تتحول إلى صورة العدو/الأب البديل، وقتلها ليس فعلاً عبثياً،
بل إنّه طقس رمزي لتدمير النموذج الذي يفرض عليه خضوعاً قاسياً.
اللافت أن السرد يفتح مساحة تأملية حين يقارن الطفل بين النملة وأمه التي تتناول دواء الاكتئاب، فيخيّل له أن النملة بدورها قد تحتاج إلى الدواء نفسه.
هذا المزج بين العنف والخيال الطفولي يكشف كيف يتداخل القمع مع براءة اللعب، ليصنع خطاباً مغايراً عن الطفولة بوصفها مختبراً مبكراً للعنف والعنف المضاد.
إعلان العصيان بالتحليق
بينما يجعل الفولي من النملة موضوعاً لانتقام رمزي، يتخذ عادل عصمت في روايته "صوت الغراب" (الكتب خان للنشر والتوزيع، 2017) مساراً أكثر كثافةً وجودية. البطل يحلم منذ البداية بأن يتحول إلى غراب،
ومع تصاعد السرد، يتضح أن هذا الحلم ليس مجرد خيال عابر، بل هو استجابة عميقة لرغبة في التحرّر من مجتمع خانق تحاصره الأعراف والعلاقات المتصدعة والرقابة الاجتماعية.
التحول إلى غراب في الرواية ليس مسخاً مأساوياً كما عند كافكا، بل انعتاقٌ من عالم لا يمنح الفرد مساحته الخاصة. أن يصبح الإنسان غراباً يعني أن يتنازل عن اللغة والانتماء والعلاقات التي عجزت عن احتوائه، ليكتسب بديلاً عنها:
الحرية والتحليق والعزلة. في هذا السياق، الغراب ليس مجرد كائن غريب الصوت أو رمزاً للموت، بل صورة للذات حين تعلن العصيان على منظومة اجتماعية خانقة.
مع مرور الوقت، يفقد البطل قدرته على الكلام، ويغدو نعيقه الصوت الوحيد الممكن، وهنا يكشف هذا التلاشي التدريجي للإنسان لصالح الحيوان تحوّلاً وجودياً؛ إذ يتحول البطل إلى كائن رصديّ، ينتبه إلى ما لا يراه الآخرون.
التحليق لا يحيل إلى حرية جسدية فحسب، بل إنّه إعلان الانفصال عن نظام يجرّد الإنسان من قيمته: "الإنسان رخيص هنا رخص التراب. المهم هو النظام".
مواجهة وجود
أما رواية "طَعم الذئب" (المركز الثقافي العربي، 2016) لعبد الله البصيص، فتقدّم صورة معقدة للتحول الحيواني في الأدب العربي الحديث، إذ يقف "ذبيان" وحيداً في الصحراء، بعد أن ضاقت به السلطة والجماعة معاً.
في مواجهة الذئب، لا نجد معركةً بين كائنين بقدر ما نقرأ تجربة روحية ووجودية، فالذئب، الذي يرمز في الثقافة العربية إلى القوة والدهاء والشراسة، يتحول إلى مرآة للذات حيث اختبار حقيقة الإنسان حين يوضع على حافة العدم أو حافة تلاشي وجوده.
وفي لحظة الاشتباك، يذوب الحد الفاصل بين الاثنين. يعض ذبيان يد الذئب ويكتشف "طَعماً غريباً، خليطاً من الحامض والمرّ والحلو"، طَعماً يفتح وعيه على أن التحول ليس مادياً، بل داخليٌ. الذئب يصبح صورة مضاعفة للإنسان، الجانب المظلم من ذاته:
الغريزة، الشجاعة، والرغبة في تجاوز الخوف من الموت.
لكن هذا الانتصار الفردي لا يجد اعترافاً اجتماعياً، فكما قتل ذبيان الذئب في الصحراء ليثبت شجاعته، يقتله المجتمع مجازياً برفضه له.
هنا يكشف النص عن تناقض صارخ: الحرية تُنال عبر المواجهة الفردية، لكن ثمنها العزلة. البطولة التي حققها البطل لا تجد مكاناً في منظومة اجتماعية لا تسمح بالاختلاف، فيتحول النصر نفسه إلى مأساة.
نحو أفق جديد
تتقاطع هذه الروايات الثلاث في إعادة صياغة حضور الحيوان داخل السرد العربي المعاصر. فالنملة عند الفولي ليست كائناً هامشياً بل هي وسيط لمقاومة القمع الأسري،
والغراب عند عصمت يتحول إلى إعلان عصيان على مجتمع خانق، بينما الذئب عند البصيص يغدو صورة مضاعفة للذات تواجه عبرها سؤال الوجود والحرية.
هذه النصوص تكشف أنّ استعارة الحيوان لم تعد في الأدب العربي مجرّد زخرف بلاغي أو تعبير عن صوره المألوفة والمعتادة، بل تعبر عن أفق مفتوح يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وعالمه، والحيوانية هنا ليست نقيضاً للحرية، بل شرط لإعادة اكتشافها.
لعل قيمة الإبداع الأهم لهذه الأعمال أنها تدفع القارئ للتفكير في الحدود بين الإنسان والحيوان، بين القمع والحرية، بين السلطة والفرد؛ إذ لا تكتفي بتقديم صور جمالية جديدة، بل تطرح أسئلة فلسفية واجتماعية عميقة: هل يكون الخلاص بالتحليق خارج الجماعة؟
أم بمواجهة الغريزة المظلمة؟ أم بتدريب الطفولة على قتل رمزي يمهّد لتحرر أكبر؟
زينب محمد عبد الحميد:
ناقدة ومترجمة مصرية