أدب الطفل في زمن الإبادة… سير ذاتية تخرج من الرماد
يسأل طفل فلسطيني من غزة، في أي صف مدرسي سيكون هو ورفاقه إذا ما انتهت الحرب؟ هذه أبسط وأعمق خلاصة يقدمها طفل لكاتب يفكر عبر نصه المرصود لأدب الطفل تحت الإبادة، في الزمن. ما الزمن إلا هذا الذي تبدو ساعاته كأنما أطفئت في السابع من أكتوبر؟
هكذا تبلورت رؤية استثنائية في الأيام الدراسية التي عقدتها مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي الفلسطينية، وهي الأبرز لجهة إنتاج أدب الطفل الإبداعي السردي خصوصاً، أو الذي يدور في سياقه الثقافي.
في مسرح البلد بعمّان على مدار يومين اختتمت مساء الاثنين الماضي سلسلة الندوات والورش تحت عنوان "أدب الطفل العربي في زمن الإبادة"، بمشاركة أكثر من أربعين باحثاً وكاتباً وميسراً وفناناً، ليؤكدوا أن الطفل الفلسطيني ليس مستقبل الجماعة فحسب، إنما فاعل ومنتج للمعنى ومشارك في تشكيل سرديتها الكبرى.
مقاربات
سمع كل هؤلاء الذين قدموا من فلسطين التاريخية والعالم العربي ودول أجنبية سؤالاً عبر تطبيق "زووم" عن أطفال كانوا يكتبون "نحن في الصف الرابع" صاروا يكتبون "نحن كنا في الصف الرابع".
جميع الطروحات بدت بوضوح لكأنها مقاربات من الكبار في السن سواء الذي يعملون مع الأطفال في غزة، أو الذين يدرسون، ويحللون، ويتأملون من الخارج هذا المعجم الطفولي، وهو يتفجر غضباً وكرهاً، بدل أن يتفتح مع شروق شمس عادية وغيابها.
عاينت ثماني جلسات مواضيع نظرية وميدانية حول الأطفال في سياقات استعمارية، والحروب والثورات، وتجارب عالمية في أدب الأطفال ضمن سياقات استعمارية وحروب إبادة وثورات.
كما بحث ضيوف الأيام الدراسية اللغة البصرية ورسوم الأطفال للتعبير عن الحرب والإبادة، ومفهوم الصدمة والتعافي في أدب الأطفال، وخصوصيته في سياقات الحرب، والهجرة والسرد والفراغ: المنظور الشمالي للهجرة في أدب الأطفال والشباب.
غير ذلك العديد من العناوين التي نوقشت وجاهياً أو عبر الفيديو هي في مجملها "فعل كسرٍ للحصار وإصرارٌ على بقاء الثقافة الفلسطينية حية في زمن الخراب"، كما ذهبت المديرة العامة للمؤسسة رناد القبج في كلمتها الافتتاحية.
نكتب أكثر
قبل الدخول إلى المسرح هناك معرض في البهو لصور شهداء من الذين عملوا، أو كتبوا، أو عزفوا أو أدوا عروضاً مسرحية في غزة. كل صورة على كرسيها الفارغ.
هؤلاء هم، يوسف دواس، محمد الأخرس، بلال عقل، روان شبير، إيمان وجودي، محمد حسونة، ميسرة الشيخ علي، محمد قريقع، ضرغام قريقع، محمد الحليمي، فاطمة حسونة، ومحمد الأخرس الذي ربما كتب نيابة عنهم "نحتاج أن نكتب أكثر لكي يقرؤوا موتنا".
السيرة الذاتية
المحاضرة الرئيسية قدمها إسماعيل الناشف، الأستاذ المشارك في برنامج علم الاجتماع وعلم الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا، تحت عنوان "السيرة الذاتية الفلسطينية في زمن الإبادة"،
فكك فيها مجموعة من المفاهيم المركزية: الحدث، السؤال، اللغة، السيرة، الأمل، في محاولة للإجابة عن سؤال جوهري: كيف سيسجل أطفال غزة الذين يعيشون الإبادة اليوم تجاربهم في سيرهم الذاتية المستقبلية؟
رأى الناشف أن ما يجري في غزة ليس حرباً عابرة، بل نقطة انكسار في التاريخ الفلسطيني، حيث تراكمت طبقات من الإبادة المادية والرمزية. واعتبر أن الكتابة نفسها باتت فعلاً صعباً، محَمّلاً بالمسؤولية الأخلاقية،
إذ يواجه الفلسطيني اليوم فراغاً لغوياً في توصيف ما يحدث، وعجزاً عالمياً عن صياغة معنى "ما بعد الإبادة".
تساءل "كيف سجل الفلسطينيون تجاربهم السابقة في النكبة والنكسة؟ وكيف سيسجل أطفال غزة تجاربهم الراهنة؟"،
ليخلص إلى أن الكتابة الذاتية الفلسطينية تحولت من أرشفة النجاة إلى مساءلة الوجود نفسه، وأن كل نص يكتبه طفل اليوم هو وثيقة تأريخية وأدبية معاً.
لغة جديدة
وتوقف الناشف عند اللغة بوصفها ميداناً آخر للاحتلال والمقاومة. فاللغة الإمبريالية التي يتداولها العالم لتوصيف الفلسطيني "تخونه وتشوهه"، بينما لغة الذات الفلسطينية تتفتت تحت وطأة الصدمة.
ودعا هنا إلى ابتكار لغة جديدة "تخرج من الرماد"، لغة الطفل الذي يشهد ويكتب دون وسطاء.
وتتبع الناشف تطور السيرة الفلسطينية منذ النكبة، من خليل السكاكيني إلى غسان كنفاني، بوصفها أرشيفاً للوعي الوطني، لكنه رأى أن الإبادة الراهنة تهدد محو اللغة نفسها. الأمل اليوم، كما قال، يكمن في السير الذاتية الموجهة للأطفال الذين عاشوا الإبادة، إذ إن تسجيلهم لتجاربهم قد يكون "بداية الحياة بعد نهاية العالم".
في كل جلسات وورشات الأيام الدراسية قناعة كان يبدأ بها المسهمون وينتهون، مفادها أن العمل الثقافي مع الأطفال جوهر الفعل التحرري الفلسطيني والعربي، وبالتالي ليس نشاطاً مكملاً أو تجميلياً، وأن الأدب والفن الموجهين للأطفال وسيلتان للنجاة الجماعية والتعافي، تعملان على صوغ الوعي ودرء النسيان.
وعي الصدمة
ما طرحه الناشف نظرياً حول "السيرة الذاتية الفلسطينية في زمن الإبادة"، تجلى عملياً في الجلسة التالية بعنوان "فعل جماعي تعلمي لفهم الصدمة"، التي شارك فيها عبر الاتصال المرئي عدد من العاملات والعاملين مع الأطفال في غزة، وهم: جيهان أبو لاشين، منى الحناوي، آلاء كمال الجعبري، هناء أسامة أحمد، نداء أبو زعنونة، محمد العمودي، نور معين عبد الجواد حميد، وهاني السالمي.
هؤلاء كتّاب وميسرون وعاملون وفنانون، جميعهم في غزة، وتحدثوا عن التجربة اليومية للعاملين في التعليم المجتمعي داخل غزة، حيث لم يعد العمل مع الأطفال فعلاً "نفسياً" أو "تربوياً" فحسب، إنما شهادة حية على تحول اللغة والحياة معاً تحت الإبادة.
واحدة من أشد التحولات مباشرة، حتى أن الواحد لا ينتبه إليها، في ظرف عادي تتحول فيه الأشياء والكائنات ضمن سقف من التغيرات المتوقعة وصولاً إلى كوارث الطبيعة.
أما القاص والروائي هاني السالمي فقدم نفسه بصوت أقرب إلى الخفوت "أنا كاتب ونازح"، وهو التعريف غير المتوقع لكاتب في أي منصة، إلا حين يعلن الإنسان عن زمنه الآن، لا عن مكانه ولا هويته.
قضى ساعتين تحت الشمس حتى بلغ المكان الذي تتوافر فيه شاشة لابتوب أو موبايل، ليخبرنا "نحن لا نعمل مع الأطفال، بل نعمل مع أنفسنا ومعهم"، مشيراً بين تقطعات في الصوت لأسباب تقنية إلى أن العباد هنا كلهم متشابهون، دون طبقات، سوى طبقة المنكوبين.
يقول هذا إلى أن يصل إلى النص الذي سيكتبه أحد ما، فيرى إلى غزة ويرى كل من فيها أبطال حكايات. أي شخص في غزة له حكايته وهو بطلها.
لا بل -يضيف- إن من باب السخرية أن الموسيقى التصويرية المميزة في العالم لا تجدها سوى هناك، وبات الغزيون خبراء في تمييز موسيقى القصف، يعرفونها في الصباح وفي الليل، والنغم الدائم للزنانة، كلها موسيقى لا نعتذر منها،
بل نعرّفها بذاتها. إنها موسيقى تعزف بشكل منتظم بشع.
جسدت الجلسة بأكملها تجربة التعليم بوصفها تعافياً جماعياً من الصدمة، حيث تتحول الكلمة والرسمة إلى وسيلة تنفس ومقاومة في آن معاً، وتصبح الحكاية نفسها ممارسة بقاء.
من التوثيق إلى التأليف
أثارت ورقة الباحثة والقيمة ناديا شفيق "سياسات تنسيق شهادات الأطفال من غزة: الشكل الأدبي، الفاعلية، والأطر ما بعد الاستعمارية"، اهتماماً واسعاً بين المشاركين.
ووفق ما جادلت به شفيق، فإن شهادات الأطفال الفلسطينيين يجب أن تقدم بوصفها تدخلات مؤلفة لا أدلة جمالية ضمن نظام فني يستثمر الصراع بوصفه محتوى.
واستعادت مثالاً على ذلك عمل المصور الفنان الإسباني سانتياغو سييرا "أسماء الذين قتلوا في الصراع السوري" لتبين كيف يفرغ الفعل الفني من فاعليته حين يتحول إلى "فرجة مهيبة" تعيد إنتاج العنف.
تشير هنا ورقة الباحثة إلى مشروع نفذه سييرا في أحد المعارض، حيث عرض أسماء ضحايا الحرب السورية على الجدران بطريقة بدت في أعين الناقدين قائمة إحصائية تقريباً، تسلع الألم وتحول المأساة إلى مشهد فني فرجوي، بدل أن يكون فعل مقاومة.
وفي المقابل، قرأت إنتاجات مؤسسات فلسطينية ومنها "تامر" بوصفها أشكالاً أدبية وبصرية تقدم تحليلاً واعياً وموقفاً أخلاقياً، من حيث إن الأرشفة نفسها يمكن أن تكون ممارسة تحررية ضد المحو.
خلصت الأيام الدراسية إلى رؤية شاملة تعيد التفكير في موقع أدب الطفل ضمن الثقافة العربية، من خلال، إعادة تعريف الطفل الفلسطيني والعربي فاعلاً ثقافياً لا موضوع رعاية،
واعتبار الأدب والفن وسيلتين للتعافي والمقاومة الثقافية، والدعوة إلى شبكة بحثية عربية، عالمية لتوثيق الأدب المنتج في مناطق النزاع، ودعم منهجيات تعليمية حساسة للصدمة تجمع بين التربية والإبداع، وحماية الذاكرة الجماعية عبر السرديات التي يكتبها الأطفال أنفسهم.
محمد هديب
كاتب وصحافي أردني