المشنوقون بأوتارهـم !

لطالما خشيت الأنظمة المستبدة والجماعات المتطرفة من الفنون، وفن الغناء تحديداً، ولطالما اعتبرته تهديدا حقيقيا لسلطتها ونفوذها.
في هذا الحيز أمكننا رصد عينات من الأغاني السياسية الجريئة، يمنياً وعربياً، والتي تعرض أصحابها للنفي أو التهديد أو الاعتقال أو القتل.
في أعقاب ثورة الـ26 من سبتمبر 1962، لم تشفع الثورة للفنان محمد أبو نصار، القادم من أسرة حميد الدين، ليعيش بسلام مع مشروعه الفني الغنائي، الذي كان بدأه بكنيته «أبو نصار»، تخفياً من أسرته الحاكمة «بيت حميد الدين»، وصار فناناً معروفاً بهذا الاسم لدى قطاعات واسعة من الشعب حتى وفاته في 2002.
كان الفنان محمد أبو نصّار «يحمل همّاً بعيداً عن مشاركة الحكم والسلطة، فاندمج بتلحين أشعار أخيه الشاعر يحيى بن حسين حميد الدين وغنائها»، لكن بالرغم من ذلك «تعرض للحبس الذي أجبره على مغادرة صنعاء والالتحاق بباقي أسرته في صعدة ورازح وحجة والأهنوم ومأرب والجوف، مما ساعده ذلك على تنويع البناء الفني لديه».
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أنتج عدداً من الأعمال الغنائية، من المهجر، معظمها تحمل أبعاداً سياسية لا تمتدح نظام حكم أسرته، ولكن تكشف انحرافات أنظمة وحكومات ما بعد الثورة، بخاصة أغنيته الشهيرة «احتجاج الضمير» التي منع انتشارها وتداولها في تلك الفترة الزمنية، ومطلعها:
«شعب اليمن ظلت الأوضاع تتدهور
سياستك أصبحت عمياء ومنهارة»
وتزخر الأغنية بالتعابير التي «تفضح تسلط مشائخ القبائل وممارستهم للاستبداد باسم السلطة والجمهورية ضد قبائلهم، وتكريس الجهل والتخلف في أوساطهم، وممارسة ابتزازهم للجمهورية والسلطات المتعاقبة بتخويفها بالقبيلة أيضاً»:
«ضاع المهندس وضاع الفكر ومن فكر
وذي تبنى المشورة ضاعت أشواره
يا شعب لا يخدعوك بالقول والمظهر
ولا تصدق من الغشاش أعذاره
نصفك معذب ونصفك ضاع بالمهجر
والبعض قد لف جهاله واطماره
والشيخ يتشرط الميزانية تكثر
قد فلّت الرعوية حقه وأثواره
يدخل وشقه رعية ردهم عسكر
وكل واحد ضرب طبله وأوتاره
يتساربوا للخزانة مثل سرب الذّرْ
وأسراب مثل النسور غارة ورا غارة
يقولوا إن الحكومة حق صميل أخضر
تدي لمن كشر أنيابه وأظفاره
مسكين يا شعب ظلّ حاصلك يُهدر
قد ضيعتنا صروف الدهر وأقداره»
وفي نهاية السبعينيات، من القرن الماضي، اعتقل جهاز الأمن في صنعاء، الفنان الكبير الراحل علي بن علي الآنسي، على خلفية أغنيته الشهيرة «أنا الشعب يا فندماً، والتي توجه بها إلى أولئك الذين أرادوا أن يختزلوا الوطن في شخوصهم، من زعماء وقادة عسكريين، وقد راجت الأغنية رغم حظرها ومنعها إلى فترة متأخرة من الثمانينيات من القرن نفسه.
وتعد أغنية «نشوان»، التي لحنها وغناها الفنان القدير الراحل محمد مرشد ناجي، وكتبها الشاعر الكبير الدكتور سلطان الصريمي، من أهم وأبرز الأغاني السياسية الذائعة الصيت في أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي. وجاء في شهادات الفنان المرشدي، أن الرئيس سالمين والأمين العام عبدالفتاح إسماعيل رفضا الأغنية عام 1977، لكن تم قبول تسجيلها ونشرها عام 1979 من قبل بقية القيادة السياسة وعلى رأسهم العقيد علي عنتر. كما رفضها نظام الجمهورية العربية اليمنية، وتعرض الشاعر الصريمي للاعتقال في صنعاء.
وتزامن ذيوع الأغنية مع بداية المناوشات على الحدود بين النظامين في الشطرين من الوطن عام 1979 واندلاع حرب المناطق الوسطى التي استمرت إلى 1982.
تقول الأغنية في بعض مقاطعها:
«نشوان لا تفجعك خساسة الحنشان
ولا تبهر إذا ماتت غصون البان
الموت يا ابن التعاسة يخلق الشجعان
فكر بباكر ولا تبكي على ما كان»
وقُتل الفنان الكبير علي السمة، في صنعاء، عام 1984، وقيدت القضية ضد مجنون. كثيرون قالوا إن المخابرات السعودية هي من قتلته بسبب أغنيته الشهيرة:
«يالله اليوم يا اخوان
حان وقت الطلب حان
نستعيد نجران وجيزان
والذي بايكون كان»
وتقول بعض الشهادات، إن أغنية «يالله اليوم يا اخوان» لم يغنها «السمة» إلا مرة واحدة، وفي جلسة مقيل مع «صالح»، وأن الأخير قال له حينها: مش وقت هذي الأغنية الآن يا علي!
عربياً، ذهبت الكثير من الشهادات بشأن مقتل الفنانة التونسية القديرة ذكرى، في نوفمبر 2003، إلى التأكيد على أن المخابرات السعودية هي التي قتلتها، بسبب أغنيتها: «مين يجرا يقول».
وفي المغرب، وأثناء نظام الحماية قبل الاستقلال، ذاعت أغنية «العيوط» للمطربة الشعبية «الحاجة الحمداوية»، وبسبب هذه الأغنية التي تقول في جزء منها «آويلي آويلي آويلي الشيباني دابا يتوب.
آويلي آويلي الشيباني.. فمو مهدوم فيه خدمة يوم.. شايب ومحني وبايت فاضحني»، تعرضت الحمداوية للاعتقال من قبل نظام الحماية.
وتحكي الحمداوية، في حديث سابق للصحافة، كيف اعتقلتها سلطات الحماية بعد أدائها الأغنية في الفترة التي كان السلطان محمد الخامس في المنفى، وقالت إن سلطات الاستعمار اعتبرت أن المقصود بالأغنية هو بن عرفة «الذي كان قد تم تنصيبه سلطانا بديلاً عن السلطان الشرعي».
وتعرض الفنان السوداني، مجذوب أونسة، للتهديد بالقتل بسبب أغنية «الغلابة» في عهد البشير، وقال في حديث تلفزيوني في أعقاب الإطاحة بنظام البشير: «المشكلة شنو إذا غنى الفنان خمس دقايق بعد الزمن المحدد لنهاية الحفل..؟ وهل يستدعي ذلك اقتياده إلى شرطة النظام العام وحبسه ومعاقبته والتشهير به وكأنه استجلب حاوية مخدرات؟»، في إشارة إلى ما تعرض له.
كما تمت محاكمة مغنّي الراب التونسي المعروف بكنية «ولد الـ15» على ذمة أغنية «البوليسية كلاب» في 2013، وجاءت محاكمته في أعقاب ثورة الياسمين التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي.
واستخدم مغني الراب الليبي، يوسف رمضان سعيد، الموسيقى وسيلة للاحتجاج ضد الزعيم السابق معمر القذافي خلال الثورة التي شهدتها ليبيا عام 2011، ومواجهة أمراء الحرب والجماعات المتطرفة التي ظهرت عقب سقوط نظام القذافي، ودفع سعيد ثمن مواقفه السياسية التي عبر عنها من خلال الأغاني، ومن بينها «هذه ثورة» و«بنغازيستان»، إذ تلقى تهديدات عديدة أجبرته على الهجرة إلى أوروبا.
وتعرضت الفنانة الجزائرية رجاء مزيان للتهديد والابتزاز، بسبب أغانيها، أشهرها أغنية «ألو سيستام» التي دعت فيها إلى رفض الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد في موطنها الجزائر، وقد أدت المضايقات التي واجهتها إلى اتخاذ قرار الهجرة إلى خارج البلد في 2018.
وفي أبريل 2020، كشف المطرب علي الحجار تفاصيل تعرضه للتهديد بالقتل من قبل جماعة الإخوان الإرهابية، بعد أن غنى أغنية «احنا شعب وانتو شعب»، إلى جانب محاولتهم منعه من الغناء في الجزائر.