"كيلا تبقى.. وحيداً".. رواية الحرب على سوريا

حسن حميد روائي وقاص عربي فلسطيني كبير، ولد ويعيش في سوريا. على امتداد  عقود راكم حضوراً باذخاً في الحركة الأدبية السورية والفلسطينية والعربيّة بشكل عام. رسّخ حضوره الروائي والقصصي ونُقلت بعض أعماله الروائية والقصصيّة إلى لغات أجنبيّة.

في الحرب على سوريا، ولأنه خدم في الجيش لسنوات، عرف الروائي حسن حميد خبايا الحرب الممتدة ومآسيها وآلامها، وعاناها مع أُخوة السلاح، ولفحت حياته وأسرته بخسارات فادحة تشرداً وفقدان كل ما بناه. 

آخر عمل كبير له عن مأساة الحرب المتواصلة منذ 11 عاماً، روايته الكبيرة (كي لا تبقى.. وحيداً)، وهي رواية مكتوبة ببراعة وسلاسة، وتعاطف مع وحدة من الجيش العربي السوري، وتدور في منطقة مدينة (تدمر) العريقة.

العسكري الذي يرويها مجنّد خدم في العسكرية، وقد أصيب.. وبعد معاناة استشهد وشيّع في جنازة مهيبة. تحضر والدته أوراقاً تركها لأستاذ اللغة الإنجليزية الذي أعانه من قبل حتى اجتاز امتحان الإعدادي، ومن بعد امتحان الشهادة الثانوية.. وذهب للعسكرية وخاض المعارك إلى أن جُرح.. ثم استشهد.. وترك أوراقه أمانة بين يدي أمه، وشهادته الثمينة التي تسرد بطولة تلك الوحدة العسكرية الشجاعة التي خدم في صفوفها.

حملت الأم الأوراق إلى أستاذه واستأمنته عليه، ولكنه وقع في الحيرة وتردد، ومن بعد نقلها إلى أستاذ اللغة العربيّة فايز الياسين لينقحها، ففعل، وأعرب عن إعجابه حين أعادها: كتابة جميلة.. ص (9).

يعطي الأستاذ الأوراق لصاحب مطبعة من بيت الأدلبي، ويطلب منه طباعة 10 نسخ فيضحك: 10 نسخ فقط؟! واتفقا على طباعة 500 نسخة حسب تكاليفها، فأخبرت أم نزار باشقة، فهرّت دموعها مثل حبات توت مترادفة.

تبدأ رواية نزار باشقة من الفصل المعنون استهلال، وهو يعترف بأنه من فكّر أن يكتب شيئاً عن الحرب، مع باقي رفاقه، في معسكر كبير، وكتيبة كثيرة العدد، وسرايا متعددة الفصائل، ومن بعد في فصيلة صغيرة، بدت لي، ولرفاقي، أشبه بالعش، بل أشبه بأسرة صغيرة جداً لها أبوان، هما ضابط برتبة نقيب، وآخر برتبة ملازم أوّل (ص11).

ها قد دخلنا في رحلة الفصيلة العسكرية التي تُنقل إلى مكان قصي من الأرض السورية لتدافع عن حريتها واستقلالها أرضاً وشعباً، ولتعاني شظف العيش، وقسوة الأيام وجفافها، وأيضاً ما يرطبها من نداوة أخوة ورفقة سلاح، وحرص بعضهم على بعض بحميمية تجمع بينهم، وتشّد أواصرهم، وهي غير مستغربة بين شباب نفروا للدفاع عن وطنهم.

كتب نزار باشقة كي يحفظ رفاقه من الموت.."لأنني بت أراهم طيوراً تهم بالفرار من أمامي" (ص11).

في مدخله، يقرر نزار تجاهل من سقطوا وطنياً، وعدم تلويث حبر كتابته بدناءتهم، وبتفاهتهم، فهم تخلّوا عن شرف العسكريّة، وامتهنوا كرامة الجنود، إنه يكتب عن رفاقه الذين عاشوا الحرب ولم يفترقوا، حتى بعد أن صارت الدنيا ضفتين.. واحدة للحياة، وثانية للموت.

يأتي فصل (الصحراء) ونتعرف على شاهين رابوبة، المنشغل بزراعة وسقاية الورود الكثيرة، التي استنبتها على أطراف الخندق الطويل العميق الذي دمّر حياتنا، واستلّ عافيتنا حتى غدا آمناً.

يقع الموقع في أرض صحراوية على أطراف مدينة تدمر من أجل تحريرها واستعادتها (ص15).

هذا هو المكان، قرب مدينة تدمر، والمعركة توشك أن تبدأ لتحرير تدمر، وفي أوقات الانتظار ينهمك شاهين رابوبة في زراعة الورد حول الخندق! ولا عجب، فهؤلاء الجنود هم أبناء الحياة، وثقافة حب الحياة، وطمأنينة الحياة في بيوت آمنة وادعة، ولذا فهم، وإن وضعوا في بيئة صحراوية، فهم لا يقبلون بالبيئة الصحراوية الجافة القاسية، ولأنهم يحبون الحياة فهم يواصلون عيشها، وخلق شروط جمالها، ويناعتها، وبهجتها.

عمل شاهين رابوبة مدرساً، وتقربت منه ابنة الجيران، وبقيت حاضرة في حياته رغم سوقه للعسكرية. رابوبة صاحب وجهة نظر ينقلها لأخوة السلاح: ما دامت هذه الخضرة حولنا، فلن تعرف أرواحنا الجفاف واليباس أبداً (ص20).

في هذه البيئة يعيش الجنود حياتهم القاسية: "في الليل ما كنّا ننام، لأننا سنفاجأ بسيارات انتحارية، وأخرى تحمل الرشاشات، والقنابل اليدوية. بل كنّا لا ننام خوفاً من الأفاعي والعقارب والجرابيع الكبيرة، التي لا تخرج في النهار إلاّ إلى الأماكن الظليلة وباحتراس شديد" (ص23).

تنقل جثث الشهداء بواسطة الحوّامات، فإن فشلت المحاولات، يتم دفنهم في قبور مؤقتة، يضع عليها خطّاط بارع الأسماء، لتبقى حتى يحين الوقت المناسب لنقلها لتدفن بجوار أهلها.

ولأن مجندين جدداً يفدون إلى الموقع، فإن بعضهم بالكاد يمكث ليلة واحدة، ويشارك في اشتباك واحد، ثم يستشهد.

يقول ميلاد الياس عند وصوله: "إن مت، لا أحد يبكي عليّ فلي ستة أخوة..فأنا ضريبة العائلة".

هكذا تمضي الحياة الشاقة المملة في هذا الموقع العسكري النائي، غير البعيد عن مدينة تدمر. في هذا الموقع يلتقي أبناء سوريا، يتعانقون في مواجهة الموت والخوف وعناصر الطبيعة القاسية، وفي مواجهة البعد عن الأهل، ويحوطون حياتهم بحرصهم على بعضهم، ويجعلون من قسوة الحياة أوقاتاً فيها مرح وفكاهة وسخرية ومحبة وشجاعة تنتصر على الخوف بمحبة سوريا وشعبها وأرضها وتاريخها.

الجنود الأبطال تنصقل مشاعرهم وتتصلب في وجه الإرهاب والوحشية البشعة: "كل الأخبار والأحداث والحادثات الآتية عن هؤلاء الأعداء، ومن مناطق مختلفة، مثل قتل رجال الدرك، في المخافر، ورجال الأمن في مقراتهم، وحرق بعض الناس في الساحات العامة، وقطع الرؤوس بالسكاكين الطويلة، أو السيوف، وتعليقها على أسوار بعض الدوائر الحكومية لبث الهلع والرعب في نفوس الناس..جعلتنا كائناً واحداً موزعاً على عدّة أرواح. صلة الفصيل بالعالم الخارجي، بالأخبار، تصل عن طريق راديو صغير، محكوم عليه بعدم نقل الأغاني، لأنه مُسخّر لنقل الأخبار، وتحدياً أخبار المذابح، والمعارك، والراديو لدى النقيب نعمان جنورة والملازم أول عبد الوهاب أحمد" (ص38).

قسوة الحياة في الصحراء الجافة لا تلغي حكايات الحب، بخاصة للجنود، ومن حكايات الحب والعشق حكاية نواف الجاسم عازف الربابة،حبيب عبطة، وتبقى قصتا عبد الرحمن حمو الكردي، ولودفيك الأرمني أجمل قصص الحب في الرواية.

حمو عشق ناره التي كفلقة الشمس، وطار عقله بها. ولكن الخاتمة السعيدة لم تأت لأن جماعة من مهربي الحدود بين القامشلي والأراضي التركية خطفوا ناره مع عدد من صبايا القرية.

نزار باشقة يقول له: "نحن أهل محبة، ومهما شوهوا المحبة..سنظل عشاقها يا حمو" (ص76).

أمّا لودفيك الأرمني، فهو قليل الكلام، صوته خافت، وقد أحبته ابنة معلمه الخيّاط آرتين، نورا، وهامت به وهو أحبها وهام بها.

"أخذنا دلوين وذهبنا إلى النبعة. وعند النبعة قال لي:  نزار باشقة، أرجوك أكتب أن الكثير من الأرمن أُخذوا أسرى في منطقة كسب، في اللاذقية، وأن الكثير منهم قُتلوا وأن القليل منهم هربوا. لقد أعاد المسلحون المدعومون من الأتراك تمثيل جريمة الأتراك بالأرمن عام 1914 مرة ثانية" (ص86). 

نعيم رجوان: حكاية جندي مُحّب

"مناحة خرافية أقمناها حين استشهد نعيم رجوان ابن مدينة أريحا القريبة من إدلب. لغم أرضي اودى بحياة نعيم رجوان، وشظاياه أصابت رفيقيه، أمّا نعيم رجوان فقد مزقه اللغم. نعيم رجوان أحب ابنة عمه، وارتبط بها منذ كان في سنته الأولى، وكانت في أُسبوعها الأول..ثم كبرا، وتعلقا ببعضهما بعضاً.  كان نعيم قد واعد حورية، ولكن اللغم الذي زرعه الإرهابيون في قاع الخندق قبل حضور الجنود..انفجر، وأودى بحياة نعيم رجوان" (ص96).

يا له من موت عبثي، ويا لها من مصادفات عبثية في حرب مجنونة تخوضها وحدات الجيش في مواجهة قوى الإرهاب.. ولكن المعركة تتواصل، والتضحيات لا تتوقف، والاستشهاد في سبيل تحرير الأرض السورية يتواصل.

ولأن الموت العبثي يحيط بالجنود في خنادقهم، ولأن بيئتهم هي من مكونات الطبيعة على امتداد مئات السنين، وتحوي في داخلها كائنات معادية، وسّامة، وحيوانات متوحشة، فإنه لا غرابة أن يعود الضبّاط وجنوده الساهرون، فتفاجئهم أفعى تنسل من جوار النقيب نعمان جنوره، فيوقظونه، و..من بعد يتم نقله بالهليوكوبتر لإسعافه..ويتم انقاذه، ويعود معافى. أمّا الأفعى فيقتلها الجنود، ويعلقونها على العمود..ومن حمص ينقل لهم النقيب جنوره أخبار الخراب الذي لحق بالمدينة العريقة.

هؤلاء الجنود الذين حشدوا من كافة أرجاء سوريا، والذين هم أبناء بيئات متباينة، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بلهجاتهم المختلفة، وبأغانيهم الشعبية الغنية بكلماتها وأنغامها،والذين يقضون أوقاتهم وهم يحفرون، ويُعدّون الخنادق لتحميهم، ويجرون التمارين ليطوروا استعداداتهم، وجاهزيتهم، ولكنهم في كل وقت وآن يفكرون بأسرهم، ولا تغيب عن بالهم حبيباتهم المنتظرات القلقات الخائفات عليهم..وهم يودعوهنّ مطمئنين بأبنهم سيعودون..وهذا حال رشدان ذيب.

ودع رشدان ذيب أُسرته، ثم نزل من السيارة العسكرية، ودخل إلى الغابة حيث كانت تنتظره حبيبته سلوى، وأخبر السائق العسكري: "سوف أمضي معك في المشوار الثاني".
على جمر الأشواق تقلبا، ولشعورهما بفراق قد يطول احترقا بلوعة الفراق، ولخشيتهما من فقدان واحدهما لصاحبه وّدّ لو يمتلكه ولا يتركه للحظة واحدة.

الخشية من الموت والفراق تحرق مشاعرهما، وهما لا يعرفان  متى يحين موعد اللقاء إن حان..يتذكر رشدان وهو يودع حبيبته جملة أمه الملتاعة على مصائر الناس: "صارت بيوت المقابر أكثر من بيوت القرى" (ص118).

ولأن الأيام أيام حرب، وموت، وقطع طرق، وقطع رؤوس،ولأن الطرق متقاربة، فالدواعش يقطعون الطريق، وهم يحتلون مدينة تدمر غير البعيدة عن وحدات الجيش، وقد يحولون بين حاجز الجيش والتموين الذي يصله. تتقدم سيارتان، ولكن جنديا المحرس ينتبهان، محمد سعد الدين ورشدان ذيب، ويقذفنهما..ويسقطان شهيدين فداءً لرفاقهما.

ولأن النقيب متواضع، ولا يتعالى على جنوده، ولأنه حموي فإنه يحكي لهم عن بطل من أبناء حماة، بعد أن انتقل للأردن انتقل لفلسطين ليقود ثورة سوريا الجنوبية وثوارها.. ثوّار فلسطين، ويدخل النقيب جنوده في تفاصيل حياته، وبهذا التباسط، والألفة تجده وقد صار منهم، فهو يحكي عن حب قريبته له، وعن رغبة والدته بزواجها منه بسبب جمالها ونبلها، لكنه يتردد.. فتدير ظهرها وتبتعد عمّن لم يبد رغبة بالزواج منها.

رفاق السلاح، هؤلاء، بعد أن باتوا بعيدين عن أسرهم، في أمكنة قفر، وتحت قذائف المدافع، وهم يتعلقون ببعضهم بعضاً، وتتعمق مشاعر الأخوة بينهم ورفقة السلاح.

في الإجازة يتوجه واحدهم بلهفة شوقاً للأهل، وعندما يعود يعود محملاً بهدايا الأهل لرفاق السلاح. بعد أن يعود شاهين رابوبة من الإجازة، وفي أول ليلة يصر على الحراسة.. ويستشهد شاهين بتاريخ  2 كانون الثاني 2016...
خسارة شاهين دفعت ضباط وحدته وجنودها للانتقام من الإرهابيين على جريمتهم، وهم لم يكونوا يبعدون سوى بضعة كيلومترات.

ينجز رفاق السلاح عملية متقنة تفاجئ الإرهابيين وهم يتناولون طعامهم، ولا يستيقظون إلاّ والبنادق مسددة إلى رؤوسهم..ويتم نقلهم بهدوء بعيداً عن كمينهم، وهكذا لا يضيع دم شاهين رابوبة.

هذه الرواية الملحمية، التي تتحرك في بيئات سوريا الغنية، بشخوصها الشباب المدهشين، أغنياء الحياة، القادمين من كل أرجاء سوريا ليدافعوا عن (وجودها) وحاضرها ومستقبلها، ويصنعوا حاضراً مجيداً لأجيالها في وطنهم، ويلحقوا الهزائم الماحقة بالإرهابيين الذين جُمعوا من كافة أرجاء الدنيا ورموا فيها..فلاقوا موتهم المخزي اللائق بهم كمرتزقة.

تغوي فصول الرواية القارئ بالعودة لقراءة بعض الفصول لما فيها من حقائق ووقائع وأحياناً لمرارة، وربما لغزارة الحب التي تفعم الروح. لقد قرأت فصل تيسير المعراوي مرتين، لا لجرأة وشجاعة تيسير الذي اختار الانضمام للعسكرية، ولكن لخوفه، وتفاعله مع الطبيعة وما يمور فيها، ولحكاية الحب التي جمعت بين قلبه وقلب رانيا البنت المسيحية.

يصف الروائي حسن حميد حشد الجيش لقوات مشتركة، من الجيش العربي السوري، وحزب الله، ولواء القدس الفلسطيني، ووحدات من جيش التحرير الفلسطيني، ويوحي بزخم المعركة، وحسمها، وتتويجها لإنزال الهزيمة بالمرتزقة الإرهابيين وتحرير مدينة التاريخ العريقة تدمر.

حسن حميد الروائي البارع رسم شخصيات مدهشة، ونسج علاقات غنيّة إنسانياً، وبنى شكلاً فنياً مناسباً لعمله الروائي، وتخلص من كل ما يثقل على نصه، وسلاسته، وتسلسل وتداخل عمله الروائي.

هذه الرواية واحدة من أهم الروايات التي كُتبت عن الحرب على سوريا، (صدرت في شهر تموز/يوليو  2022 في دمشق عن دار كنانة)، إنها حقاً رواية (حرب) متميزة، مفعمة بالمشاعر الإنسانية، غنية بعلاقاتها الإنسانية، وهي إلى ذلك تقدم شباباً في الحرب، قلوبهم تتعلق بحبيبات ينتظرنهم هناك..في قراهم..وأحياء مدنهم.

خاتمة الرواية (المجيدة) تتحقق على أرض تدمر  ويتم تحرير المدينة العريقة، مدينة زنوبيا. وهكذا يحسم فصل من فصول الصراع مع الإرهاب، ومع مخططات تجّار النفط والسماسرة، ومن يحركونهم بهدف تدمير آخر حضور عربي في سوريا.

رشاد أبو شاور - روائي فلسطيني