"أعظم من كل شيء": من الجاني.. الآباء أم الأبناء؟

 تعرض الكاتبة السويدية مالين بيرسون غيوليتو (1974) عبر روايتها "أعظم من كل شيء" الصادرة عن دار الرافدين بترجمة (حميد كشكولي)، آثار العنصرية والطبقية على المجتمع السويديّ. ومن خلال جريمةٍ جرت في مدرسة ثانوية وسط مدينة ستوكهولم، من غير أن تهتمّ بأسبابها، بل تتساءلُ حيال الأحداث التي تدفع الأفراد إلى تخطي الخطوط الحمراء، وفعل محرماتٍ تفضي إلى قتل من حولهم. وضمن فضاء يتغير بسرعة، تتزايد الانقسامات الطبقية والتناقضات بين مجموعات شبابٍ ومراهقين ليسوا على ما يرام.

"سمعتها وهي تموت... سمعتُ الجميع يموتون" تبدأ الحكاية بصوت مايا نوربيرغ، وهي فتاة الثانوية الناجية من مذبحة أودت بحياة زملائها ومعلمها، ومتهمة في الوقت ذاته بقتلهم وتحريض صديقها سيباستيان على الانتقام منهم. هكذا يظهر الشاب كابن لأشهر أثرياء البلاد، كلايس فاغرمان، ومن خلاله نتعرف إلى مجتمعٍ نادراً ما تنبه لكون أكثر أفراده غنى هو أشدهم هشاشة. ذلك أن الأحداث في الثانوية تصاعدت كما لو أنها في فيلم بوليسي انتهى في قاعة المحكمة. كما لو أننا في مشهد شكسبيري، تقف مايا على الخشبة متهمة، وتحيط بها جثث أصدقائها وحبيبها. لتطرح الحكاية تساؤلات وإخبارات محفزة حول مسائل من مثل: الذنب، والعقاب، والتكفير. إنها دراما تحاكي القارئ بلغة حادة، وخاطفة، ومتهكمة في كثير من المشاهد، بل ومُرّة عندما تتجه للحديث عن أولئك الذين لم يعرفوا في طفولتهم سوى الخوف، ولا يعود بالإمكان أن نتوقع منهم أكثر من ذلك.

" لقد كان أكثر من مجرد شجن..." تبدو مايا المتهمة الوحيدة، وأثناء التحقيق وخلف القضبان تُجري حواراتٍ ذاتية تكشف عن مكان تهيمن عليه الطبقية والعنصرية. فالعاصمة تشهد أعمال شغب في ضواحِ يسيطر عليها البلطجية، وعلى الرغم من درجة التطور الذي يسمها، إلا أنها لم تترك المراهقين وشأنهم: "لقد غدر بي عالم البالغين بخلق صعوباتٍ لي مذ دخل سيباستيان حياتي..". هكذا تقع مايا في فخ محاكم تعاني صعوبة في قول الحقيقة. إذ نكتشف من خلالها علاقاتٍ متشابكة بين مراهقين حولت حيواتهم  إلى مأساة، في مشاهد ضغط  فيها كل شيء على سيباستيان؛ علاقته الجريحة بأبيه، رحيل والدته، وهجران مايا.. كله ساهم في بناء شخصية تعاني صراعاً وآلاماً داخلية، انتهت به مريضاً يعاني الاغتراب عن عالمه من دون أن يجد منفذاً سوى عبر القتل والانتقام. هكذا تقع المأساة، وتجد مايا نفسها متهمة بالقتل والتحريض عليه، بحجة استغلال مرض سيباستيان والانتقام من مدرستها وأقرانها.

"يريد الجميع أن ينظروا... لكن لا أحد يريد أن يستمع.." لا تكتفي غيوليتو بفضح أسباب الجريمة، أو محاكاة واقع أريدَ به أن يكون مثالياً، لكنه صدم الجميع بانعدام فعالية تلك المثالية إزاء عالم المراهقين المتشعب. ضمن تلك الأجواء المتشابكة تُظهر الكاتبة عماء الحشود، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تغييب الحقيقة. إذ يكفي أن يُرمى بخبر الجريمة على موقع ما، لينتهي إلى آلاف المواقع، ومعه ينغمس آلاف المحللين، والمفسرين، والمختصين وغير المختصين، حتى تمسي الجريمة مأساة البلاد، ومعها تصبح مايا "قاتلة" ينادي الجميع بإعدامها. هكذا يُسهم عالم الأخبار بانتشار الحقائق المضللة، والأحكام العشوائية. وتصير الفوضى شاسعة التأثير، فيكثر حول مايا وأسرتها من يلفق، ويدحض، ويتهم دون الاستناد سوى إلى غريزة تدفع كثيرين لقذف منزلها بالحجارة، والمطالبة بإعدامها على وحشيتها وصديقها: "لا يتلقى المحامي رسائل كراهية وحده، بل إنه أخبرنا عن أولئك الذين يقتربون من بيتنا ليلاً ويرمون البراز على الباب الخارجي...". 

إنها غريزة القطيع التي لم تنجُ منها أكثر الشعوب تحضراً، وهي مأساة تفرز اليوم عوضاً عن التعقل والتفكير، حشوداً متنمرة ومنغلقة على أحكامها بصورة مطلقة.

بعد تسعة أشهر من المحاكمة، يكشف المحامي ساندرز الحقائق وتحصل مايا على براءتها، لكن الأمر لا يتعلق في القضية بذاتها، فالرواية وعلى الرغم من كونها تركز على مأساة القتل. إلا أنها تخفي مأساة أخرى تتعلق بتلك العلاقات المتأرجحة بين المراهقين وذويهم، فسيباستيان وعلاقته الجريحة بأبيه، شكلا نموذجاً لأولئك الذين يشبون على الرفض والنبذ، إذ لم يكن له أن يتلقى لحظة استحسان واحدة من أبيه الثري، وقد أودى اضطراب الأب العاطفي بدورهِ، وسوء إدراكه لما يعانيه من فقدٍ وضياع، إلى تشكيل سلوك عصابيّ، انتهى بشابّ يستخدم السلاح والإدمان  للرد على مآسيه الداخلية. هكذا تقع مايا فريسة دوامة، وتجعلها السذاجة والكتمان قاتلة. إذ نجدها وعلى الرغم من احتجازها، تبحث عن أعظم الأسباب التي قلبت حياتها رأساً على عقب، جاهدة في تفسير حالها والناس من حولها،  فهل كان السبب حبها لسيباستيان؟ أم أن هناك ما هو أعظم منه، تلك التفاصيل التي توهم المراهق بقدرته على مواجهة الطبقة، والقوة، والعجز؟ 

"كان حبي إياه أعظم بالنسبة إلي، ولم يكن هناك شيء أكبر قيمة من ذلك. ولكن هذا ليس صحيحاً؛ فالأعظم من كل شيء هو الرعب، الخوف من الموت. لا يعني الحب شيئاً عندما تحسب أنك ستموت".  

غنوة فضة - كاتبة وروائية من سوريا