«التصفيق».. ممارسة ثقافية في مجتمعات القرن العشرين

يؤكد الدكتور عماد عبد اللطيف في كتابه «لماذا يصفق المصريون؟» الصادر عن دار العين للنشر والتوزيع، أنه لا أحد يعرف على وجه الدقة متى بدأ الإنسان التصفيق، ومن غير الممكن الادعاء بأن التصفيق عُرف في مجتمع ما أو حضارة ما قبل المجتمعات والحضارات الأخرى، لكن هذا لا يعني أنه سلوك مستحدث، فهناك إشارات عدة لوجوده في بعض المجتمعات القديمة، فكثير من النقوش المصرية القديمة تظهر المصريين وهم يصفقون، وكان التصفيق حينئذ أداة الإيقاع الأساسية.

في الحضارة اليونانية كان التصفيق وسيلة إظهار استحسان الجمهور وإعجابه بالعروض المسرحية أو الموسيقية أو الغنائية التي يشاهدونها؛ بل إن اليونانيين ربما كانوا أقدم الشعوب التي عرفت مهنة المصفق المأجور، أي الشخص الذي يحصل على مقابل مادي نظير التصفيق لمسرحية معينة أو أداء موسيقي ما.

تذكر كتب التاريخ أن «نيرون» طاغية روما الشهير أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وأنه كان يأمر ما يقرب من خمسة آلاف فارس وجندي من أفراد الجيش، بحضور الحفلات الموسيقية، التي كان يغني فيها، وهو يعزف على القيثارة، ليصفقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف.

يوضح الكتاب أن التصفيق الجماعي أصبح ممارسة اجتماعية شائعة في معظم المجتمعات في القرن العشرين، تستطيع رؤيته وسماع صداه في أسواق الصين وفي التجمعات الشعبية على ضفاف الأمازون، وفي الحفلات الغنائية المصرية، وساحات اللعب الأوروبية، وقاعات الذكر التركية ورقصات الأدغال الإفريقية.

يرى الدكتور عماد عبد اللطيف أن هذا الانتشار الكوني، ربما يكشف أن التصفيق ممارسة مشتركة بين أبناء البشرية، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، ومن ثم يوشك أن يكون سمة جوهرية للإنسان، ولا يعرف التصفيق قيود العمر أو النوع، كما أن التصفيق ممارسة تربوية، يتم نقلها من جيل إلى آخر، وممارسة ثقافية أيضاً؛ لذا تختلف طريقة استخدامه وكيفية تأويله من ثقافة إلى أخرى، ومع ذلك فقد أدى كون التصفيق شعيرة تواصلية في كثير من أشكال التواصل الجماهيري اليوم إلى تحوله في بعض أنشطة التواصل إلى عرف مستقر.

استجابة وتفاعل

يمثل التصفيق إحدى الاستجابات التي يستطيع الجمهور إنتاجها في سياق التفاعل المباشر مع خطاب المتكلم، وترجع أهمية التصفيق إلى أنه قد يكون في بعض الحالات الاستجابة الوحيدة المتاحة للجمهور، ففي إطار مناقشات الرسائل الجامعية لا يستطيع الحضور في الأغلب إنتاج أية استجابات غير استجابة التصفيق، ومن ثم يصبح التصفيق الوسيلة الوحيدة للتفاعل بين المتكلم والجمهور.

يوضح الكتاب أنه على الرغم من أن ظاهرة التصفيق الجماعي من أكثر الظواهر شيوعاً في جميع أشكال التواصل الجماهيري العربي، فإنها لا تحظى حتى الآن باهتمام يذكر من قبل الباحثين، فهناك حالة التجاهل شبه التام، سواء من علماء الاجتماع وعلماء النفس أم من علماء الاتصال والبلاغة، وهذا الكتاب يحاول جذب اهتمام الباحثين نحو الظواهر الاجتماعية واللغوية والبلاغية، التي تشيع في المجتمعات المعاصرة، وتمنحها شكلاً وهوية، خاصة تلك التي تبدو عفوية وطبيعية، لا تستدعي للوهلة الأولى تفكيراً عميقاً، أو وقفة خاصة كما هي الحال مع ظاهرة التصفيق.

في الأغلب نمارس التصفيق من دون وعي مسبق، ومن دون أن تكون لدينا معرفة فاحصة ودقيقة بوظائفه، والآثار التي تترتب عليه، وهو ما يعني أن التصفيق الذي نمارسه قد يشوبه الكثير من السلبيات، التي تحتاج إلى الوعي بها، ولا يتأتى هذا الوعي من دون الفهم العميق للتصفيق بأبعاده البلاغية والنفسية والاجتماعية والسياسية المختلفة.

مثل هذا الفهم ضروري إذا كنا نسعى إلى تطوير سلوكاتنا التواصلية، ومن دونه لا يمكن أن نأمل في تجاوز السلبيات، التي تشيع في هذه السلوكات، من هنا فإن الكتاب يضع بعض السلوكات اليومية، موضع النقد والمساءلة، من خلال محاولة فهمها فهماً علمياً دقيقاً، أملاً في تغيير ما هو سلبي.

هذا الكتاب هو الأول من نوعه في المكتبة العربية، وقد حاول مؤلفه وضع أساس علمي لدراسة التصفيق في المجتمعات العربية المعاصرة بعامة، والمجتمع المصري بخاصة؛ وذلك من خلال الاستفادة من الدراسات الأجنبية القليلة التي اهتمت بالظاهرة.

والكتاب يقع في قلب علوم البلاغة والاتصال الجماهيري خاصة، ويضرب بجذوره في تربة علم السياسة وعلم النفس وحقل التواصل الجماهيري والأنثروبولوجيا.