الرواية التاريخية العربية في العصر الحديث !

تعد الرواية أشهر فن نثري في العصر الحديث، اذ تحظى باهتمام تحديد من القراء والدارسين، فقد استطاعت أن تبرهن على قدرتها على التفاعل مع الواقع واحتواء اشكالاته، واستيعاب تحولاته على جميع الأصعدة، حيث ” تفضياسطورة الرواية الى وضعها خارج الأجناس الأدبية، لتصبح جنسا مفتوحا غير منجز أبدا، قوامه سيرورة مفتوحة تمنع عنه السكون الكامل والانغلاق”1.
فتلتقي الرواية بالتاريخ لتستمد منه شرعيها، فتحاوره وتستنطقه، وتحفظه. والإنسان باعتباره كائن شعوري ويستنشد الجمال الخلاق بالاستمرار في الحاضر والتمسك بالماضي من خلال التفاعل مع التاريخ الذي يمثل جزءا منه، وله تأثير خاص على حياته. فأنطلق الروائي بالرجوع الى القديم اعتمادا على الحدث التاريخ لتشكيل مادة سردية يمتزج فيها التاريخ بالخيالفيتدخلان، وفق حبكة فنية تجذب القارئ وتترك في نفسه أثرا فنيا ومعرفيا.
لقد كان للتاريخ حضور قوي داخل النصوص الإبداعية الروائية على وجه الخصوص. وللبحث عن افاق جديدة للكتابة. وجدت الرواية في التاريخ مبتغاها بوصفه منظومة من الأحداث الواقعية حدثت في حقبة زمنية معينة، تقوم بصياغتها وتدوينها مع الاحتفاظ بتقنيات السرد الروائي.
ومن هنا كانت الروائية التاريخية فما هي الرواية التاريخية؟ وكيف كانت نشأتها؟، وما الفرق بين الرواية التاريخية الكلاسيكية والرواية التاريخية الحداثية؟
تمثل الرواية التاريخية احدى اتجاهات الرواية التي ازدهرت في إنجلترا في ق 18 مع وولتر سكوت الذي عد رائدلها ، و تأثر به عديد من الروائيين مثل اليكسندر دوماس، وبلزاك وغيرهما، وكان قد تأثر به في الأدب العربي الحديث جورجي زيدان، الذي اعتبرت رواياته البداية الفعلية للرواية التاريخية العربية فيمطلع  ق 19، (اذ استطاع جورجي زيدان 1861-1914 الذي بدأ حياته مؤرخا، نقل الرواية التاريخية خطوة الى الأمام )  و سار على خطاه مجموعة من الروائيين العرب الذين أثروا المكتبة العربية بإبداعاتهم .
والرواية التاريخية “ذات طبيعية مركبة، أي أنها جمعت أمرين هما التاريخ”  والعلاقة بينهما علاقة متشابكة، لايمكن الفصل بينهما. لقد ظل التاريخ مصدر الهام عديد من الروائيين فكان الروائي يبحث في الذاكرة الشعبية لنقل الوقائع التاريخية. فهو على رأي لوكاتش (مؤرخ  يتكئالى نسق من المقولات، يحدث عن الخير و الشر و الهزيمة والانتصار… فالمؤرخ ينتج سلسلة من الوقائع، ولا ينتج خطابا)  .
ويركز لوكاتش على أن الرواية (يجب أن تكون أمينة للتاريخ، بالرغم من بطلها المبتدع،و حبكتهاالمتخيلة) .
ان الرواية التاريخية الكلاسيكية، تتخذ من التاريخ مرجعا لها، يتفاعل فيها السرد بالتاريخ.
فهل كاتب الرواية التاريخية أمينا في نقل الأثرالتاريخي؟.
ان كتابة التاريخ عميلة صعبة، ودقيقة، والكاتب ليس بإمكانه، ان ينقل الحدث التاريخي بحرفيتهخاصة والذاكرة تتعرض لحالات خاصة، فتسقط بعض الوقائع سهوا أو عمدا اثناء عميلة تدوين السجل التاريخي. فيلجأ كاتب الرواية التاريخية الى “التخييل يملأ الفراغ الذي سكت عنه التاريخ “1باستحضار خياله بصورة حيوية تستقطب القراء على اختلاف ثقافتهم.
فبعض الدارسين يعتبرون “أن الرواية التاريخية عمل فني يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنه لا ينقل التاريخ بحرفيته، بقدر مايصور رواية الفنان للواقع من خلاله، للتعبير عن التجربة من تجاربه، او موقف من مواقف الفنان تجاه مجتمعه”2، وبالتالي لن يكون كاتب تاريخ أمينا في نقله للوقائع والأحداث.
فهل تستطيع الرواية ان تتخلى عن التاريخ من عملية السرد؟
وهل توجد رواية فنية خالصة بدون وقائع تاريخية؟
ليس بإمكان الروائي ان يتخلى عن عنصر التاريخ في كتابته، سواء كان التاريخ واقعيا او متخيلا، “حيث يرى أصحاب النزعة التاريخية ان التاريخ والرواية مترابطان ترابطا عضويا”3 وهو إقرار بالعلاقة العضوية التي تربطهما، فالروائي في كتابته ” يبدأ باتساق مختلفة من الشخصيات المتنوعة، ويرصد تحولاتها في عاملها الداخلي والخارجي معا، لكنه وهو يشق من مصائر الشخصيات خطابا فكريا معينا، لا ينفصل عن سياق تاريخي بالغ التحديد “4. فالرواية ذات طبيعة مركبة يتفاعل فيها ماهو تاريخي بما هو فني.
ومع الرواية التاريخية الحداثية، اخذ الروائي يتوسل التخييل في عملية السرد، متكئا على الحادثة التاريخية، فهو ليس بموثق، او مصور لتلك الأحداث ما يهمه من الكتابة ابراز العناصر الفنية للرواية.
” فالتاريخ كمادة والرواية كفن يشتركان في تقنية مهمة هي تقنية السرد او الحكي “5.
واذا كانت الرواية التاريخية الكلاسيكية تعتمد على الذاكرة لتدوين احداث واقعية، فتكون مرجعا تاريخيا يحتفظ بالماضي، فان الرواية التاريخية الحداثية تتخذ من المرجعية التاريخية آلية تقوم بتحويلها من جديد  فيمتزج فيها الواقعيبالخيالي ، قد يكون الهدف تسويقيا(العمل الإبداعي) ، وقد يكون فنيا ادبيا ، وقد يكون افتراضا لما كان يجب أن يكون ، وقد يكون الهدف من ذلك تمرير رسائل معينة لا يستطيع  المبدع التصريح بها ، فيقوم بإسقاطها على حالات معينة .
انه من الصعوبة بمكان التمييز بين الرواية التاريخية الكلاسيكية والرواية التاريخية الحداثية في كثير من الحالات. حيث يتداخل الخيال بالواقع والسرد بالتاريخ “فالإيهام بالواقعية والتاريخية في موئل المفارقة التي أومأها اليها وهي جوهر الإبداع السردي الذي يتحقق من خلال فعل التخيل، حيث كل رواية تقدم شيئا وتوحي بأنها تقدم غيره، وان حصل انتبهنا الى ماهو يفيد العكس كان جواب فنيا “1
والرواية” كفن والفن عمل تخيلي والتاريخ له وجوده المستقر كمادة منتهية “1. فالكتابة التاريخية مهمة صعبة وشاقة،ذلك أن الفضاء الذي يتحرك فيه الروائي مقيد بزمان ومكان محددين، فلا يملك حرية التصرف في المادة المنقولة، يتعامل مع الماضي وفق معايير مضبوطة.
وكان الناقد عبد الله إبراهيم اقترح مصطلح (التخييل التاريخي) بديلا عن مصطلح (الرواية التاريخية) والذي يرفضه الناقد المغربي سعيد يقطين و يرى انه لا مبرر له منهجيا و نظريا، ويعتبر يقطين ان “الرواية  رواية والتاريخ تاريخ لا يمكن الا أن تقام بينهما علاقات متعددة الأبعاد و الأشكال 2” وضمن السرد التاريخي المتخيل، صاغ عديد من الروائيين في كتاباتهم، باستثمار التاريخ من خلال عميلة المزواجة بين الواقع والمتخيل من مثل : جمال الغيطانيعبد الرحمان منيف، الطاهر وطار ،واسيني الأعرج …الخ.
تراجعت الرواية التاريخية الكلاسيكية منذ سنوات عديدة في الوطن العربي، لتحل محلها الرواية التاريخية الحداثية وذلك لتطور حركة الكتابة الروائية – والعالم في سيرورة دائمة لا يعرف الثبات – فاتخذت الرواية ” من الموضوعات الإنسانية بكل اشكالها ميدانا لها وعرضها في اطار تاريخي، بمعنى انهاضمنت لنفسها البقاء مع بقاء التجربة الإنسانية3.
ومع مطلع هذا العام “2020” شهدت الساحة الأدبية العربية ولادة جديدة للرواية التاريخية بتقنيتها الكلاسيكية القديمة من خلال رواية ” الديوان الإسبرطي “للكاتب الجزائري الشاب عبد الوهاب عيساوي، والتي اجمع عديد النقاد على تصنيفها ضمن الروايات التاريخية التي عرفها الأدب العربي مع جورجي زيدان ونجيب محفوظ وغيرهما.
وقدتوجت ” الديوان الإسبرطي ” بالجائزة العالمية للرواية العربية ” البوكر ” في دورتها الثالثة عشر للعام 2020، وقد صدرت طبعتها الأولى في الجزائر العام 2018.
” الديوان الأسبرطي ” رواية ن 384 صفحة تدور أحداثها في ق 19 يتعرض فيها الروائي للحديث عن الاحتلال العثماني والفرنسي في الجزائر. يتناول فيها خمس شخصيات، شخصيتان فرنسيتان، وثلاث شخصيات جزائرية،استعار هذه الشخصيات للتعبير عن الواقع الجزائري خلال الإحتلالين” التركي والفرنسي “.
استعان الروائي بجريدة ” لوسيان  فورديمارساي ”  كوثيقة لنقل الأحداث .
حفلت الرواية بمجموعة من الأحداث كحادثة المروحة التي احتلت بسببها فرنسا الجزائر “لم ينتبه الباشا الى نفسه الا وهو يقف، ومن ثم يضرب القنصل بالمروحة التي كانت بيده فهم القنصل بسل سيفه، لكن الحراس قبضوا عليه”1.
كما نجد الرواية تعرضت الى ذكر الأمير عبد القادر الجزائري وموقف الاحتلال منه “سنستمع الى اخبار القائد الذي صار العرب اليوم يجتمعون حوله …انهم لا يطيلون التحلقجوله”2في مقابل ذلك تكلمت الرواية عن شخصية نابليون، و فجيعة الفرنسين أمام موته بلسان احدى الشخصيات: هل يعقل ان يموت رجل بمثل نابيلون في جزيرة نائية من الأطلسي؟ هل قدر العظيم ان يدفن هناك بعيدا عن أوروبا؟ أعجز عن تخيله صامتا وباردا في صندوق خشبي … كيف مات؟ هل قتلوه أم انه مات مريضا؟… انها مكيدة مدبرة من هؤلاء الإنجليز … قد مات الرجل الذي كان يشكل احلامك كلما خمدت ولكنك يا كافيار لو ظللت مؤمنا ان نابليون كان مجرد قائد، عاش عمرا من الانتصارات ثم هزم قد تكون مخطئا. نابليون أكثر مما تعتقد انه فكرة لا تفنىيجب ان تؤمن بها، مثلما آمنت به قائدا عظيما طوال السنوات الماضية “2
قسمت الرواية الى خمسة فصول ” اقسام ” ركز فيها الروائي على محطات تاريخية بارزة امتدت مابين 1815 الىغاية 1833.
اعتمد روائي ” الديوان الأسبرطي ” على تقنية التناوب السردي وتعدد الأصوات في نقل الحادثة التاريخية امتزج فيها التاريخ بالمتخيل، مع التكثيف اللغوي والكثير من المتواليات السردية التي اثرت العمل فنيا وجماليا.

قراءة : خديجة مسروق - الجزائر