صلاح فضل.. سرديات المنذور للنقد الأدبي

يُعتبر صلاح فضل واحداً من الآباء المؤسسين للنقد في الثقافة العربية، وقد كرّس ذلك من خلال مسيرة أكاديمية حافلة، كانت حصيلتها 47 كتاباً، عدا الدراسات والمقالات والترجمات والتقديمات. وربما يكون فضل، كما يقول الناقد المصري إيهاب الملّاح، آخر المنتمين إلى جيل النُّقّاد الكبار العظام الموسوعيين، أصحاب الإسهامات الأصيلة، ليس فقط في النقد العربي المعاصر، وإنّما في مجمل الحركة الفكرية والثقافية والمعرفية العربية في السنوات الـ50 الماضية.

غادر صلاح فضل عالمنا قبل أيام عن 84 عاماً، بعد مسيرة حافلة لا يمكن حصرها في بابٍ واحدٍ، تمكّن خلالها من نيل عدة ألقاب مثل "شيخ النقاد العرب"، و"حارس اللغة العربية"، وذلك بعد أن ترأس "مجمع اللغة العربية" في القاهرة، بالإضافة إلى لقب "رجل المهام الكبيرة"، وذلك بعد المناصب التي شغلها، لا سيما كمستشار ثقافي لمصر، كما أنّه أثرى المكتبة العربية بعشرات الدراسات النقدية البارزة في مجالها، التي يعتمد عليها الباحثون في رؤاهم النقدية ومنجزهم الفكري حتى اليوم.

منذورٌ للنقد

 ليس بنا حاجة للذهاب بعيداً من أجل تقصّي السيرة الذاتية والفكرية لصلاح فضل، إذ ترك معظمها في 3 من كتبه، يمكن اعتبارها ثلاثية شخصية، لكنّها لا تنفصل عن مشروعه ورؤاه النقدية في الآن نفسه، بوصفه فاعلاً وشاهداً على حركة الثقافة والمعرفة والفكر عبر عقود، لا في مصر وحدها، إنّما في العالم العربي ككل.

أول تلك الكتب هي "عين النقد وعشق التميّز، ملامح من سيرة فكرية"، الذي صدر عن "مؤسسة بتانة" في القاهرة عام 2018. يستعيد فضل في هذا الكتاب طفولته ويُتمه منذ أن كان في الـ4 من عمره، وإصرار جدّه على قطع دراسته المدنية، كي يلتحق بالكتّاب ويحفظ القرآن وينخرط قي التعليم الأزهري. كان فضل يخشى العمامة التي ستحرمه من عيش طفولته وصباه، وذلك ما حدث. 

يقول: "صعدتُ لمنبر القرية وأنا في الـ11 من عمري، وألقيت خطبة الجمعة، وقبّل المُصلّون يدي. وحُرّم عليّ حينئذ أن ألعب بكرة الشراب في شوارع البلدة، أو أسبح عارياً في ترعة، أو أرمق الشغف في عين إحدى البنات".

استغرق فضل في قراءة مجلة "الرسالة" التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات، وكتب مقالاً في العام 2014 يحكي فيه كيف أدخلته إصدارات "الرسالة" إلى مدرسته النثرية الأولى، ويستذكر كذلك محاولاته كتابة الشعر والقصة القصيرة، إذ يقول: "تحوّلت من قراءة الكتب إلى المساهمة في الكتابة على عدة مراحل؛ فبدأت بكتابة الشعر، ولكن لم يعجبني الشعر الذي كتبته فتوقفت عنه، متوجهاً لكتابة القصة القصيرة، لكن ما كتبته لم يرضِني فمزّقته! لأكتشف نفسي بعد ذلك بتوجّهي نحو الكتابة النقدية. فعندما أقام المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مسابقة لكتابة الأبحاث على مستوى مصر، تقدَّمت لها وظللت أحصل على المركز الأول سنوياً، فأدركت أن مستقبلي يرتبط بالبحث، واستشعرت أنّ البحث في الأدب تحديداً هو الذي يمكن أن أكتب فيه، والمعروف عليه اصطلاحاً بالنقد الأدبي. وأذكر أنني في سن السادسة عشرة قدّمت بحثاً تحليلياً لمجموعة شعرية اسمها المفضليات في الشعر، وفزت بالجائزة الأولى".

لعبت قراءة فضل لمجلة "الرسالة"، التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات، دوراً في التحوّل من قراءة الكتب إلى المساهمة في الكتابة على عدة مراحل، إذ بدأ بالشعر ثم القصة القصيرة، ليكتشف نفسه بعد ذلك في الكتابة النقدية.

كما يورد فضل في كتاب "عين النقد" فصلاً بعنوان "أن أصبح ناقداً"، يروي فيه حكاية دراسته الجامعية، وتحضيره لشهادة الدكتوراه في إسبانيا، ومقولته إنّه "منذورٌ للنقد"، بالإضافة إلى تحضيره عقب مناقشته للدكتوراه لكتابين، صدرا كلاهما في العام 1978، أولهما "منهج الواقعية في الإبداع الأدبي"، الذي احتوى 3 فصول هي: "الأسس الجمالية للواقعية"، و"سوسيولوجيا الأدب"، و"عن الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية". إذ كتب فضل عن الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز قبل أن يحصل على جائزة "نوبل"، وقبل أن يعرفه أحد في العالم العربي. أما الكتاب الثاني فهو "نظرية البنائية في النقد الأدبي"، الذي أحدث تحوّلاً حاسماً في مسيرة النقد العربي. ثمّ استمر منجز فضل النقدي مع كتابه الثالث "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي" (1980)، وكانت هذه الكتب الـ3 هي الركيزة الأولى في مشروع فضل النقدي، قبل الانصراف إلى ترجمة 7 نصوص مسرحية عن اللغة الإسبانية، بمقدمات نقدية مستفيضة، منها مسرحية "الحياة حلم" لكالدرون دي لاباركا، و"نجمة إشبيلية" للوبي دي بيغا.

ثاني الكتب ضمن ثلاثية السيرة الفكرية هو كتاب "ضد موت المؤلف، تكوينات نقدية"، الذي يتحدّث فيه فضل عن تجربته الأسلوبية، ويستحضر أسماء عديدة من الثقافتين العربية والإسبانية.

أما ثالث الكتب فهو "صدى الذاكرة"، الذي صدر في العام 2021 عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، وهو أكثر كتبه خصوصية، حيث يتناول فيه حياته الخاصة، وعلاقته بالجنس الآخر، ومواقفه السياسية، بالإضافة إلى سيرته الفكرية والثقافية.

يؤكّد فضل في آخر حوار له في برنامج "ضيّ القناديل"، أنّه ناقد حتى على من أنجبه، إذ اطّلع على دفتر والده، ووجد فيه ما يلي: "وُلِدَ يوم الأحد، الـ13 من آذار/مارس عام 1938، ولد أسميته محمد صلاح الدين، وذلك لكي يستغنى باسمه، ويبني حياته المستقبلية مستقلّاً عن أسرته وأبيه". 

ويشرح فضل ما حدث معه بعد ذلك: "بعد أن بلغت مبلغ الرجال وأكملت دراستي الجامعية، عاودت دفتر أشعاره في نوع من محاولة الوفاء لذكراه، وما يكنّه الابن لأبيه من إعزاز، وعندما قرأت شعر أبي وجدته متوسطاً أو دون المتوسط، وهذه هي المأساة أنني مارست النقد على من أنجبني، وقلت إنّه لا يستحق أن أطبعه".

تغطية الرواية العربية

يلاحظ بعض النُّقّاد أنّ أبرز ما في مسيرة صلاح فضل هو متابعته الأعمال الإبداعية الجديدة، في الشعر والرواية والقصة القصيرة على امتداد الوطن العربي، ويعتبرونه لذلك أكثر النُّقّاد مثابرة وقراءة فى زمن يشحّ فيه النقد الأدبي، منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي تحديداً. 

كرّس فضل، صاحب تعبير "إننا نعيش في مجاعة نقدية"، عدّة كتب من مشروعه بعيداً عن دراساته، مثل كتب "علم الأسلوب" (1984) "إنتاج الدلالة الأدبية" (1987)، و"شفرات النص" (1989). وبعيداً كذلك عن الدراسات الشعرية، مثل كتب "أساليب الشعرية المعاصرة" (1995)، "نبرات الخطاب الشعري" (1998)، "تحولات الشعرية العربية" (2002)، و"جماليات الحرية في الشعر" (2005).

بدأ هذا التكريس في كتابَيه "عين النقد على الرواية المعاصرة" (1997)، و"أساليب السرد في الرواية العربية" (1993). وتقوم رؤية فضل فيه على فرضية وجود 3 أساليب رئيسة في السرد العربي، هي الدرامي والغنائي والسينمائي، ويطبّق كل أسلوب على عملٍ لروائي عربي، حيث يدرس في الأسلوب الدرامي روايات كلٍّ من نجيب محفوظ، حنا مينه، وبهاء طاهر. أما في الأسلوب الغنائي فيدرس روايات عبد الرحمن منيف، جمال الغيطاني، الطاهر وطّار، يحيى حقي، وإميل حبيبي. وأخيراً يدرس في الأسلوب السينمائي روايات إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم.

بعد ذلك، نشرت "الدار المصرية اللبنانية" كتاب "سرديات القرن الجديد" (2015)، الذي جمع فيه فضل مقالاته المنشورة في جريدتي "الأهرام" و"المصري اليوم". يقول الناقد المصري في مقدمة كتابه هذا إنّه ينتمي إلى "دائرة النقد التطبيقي، المعنيّ بالممارسة أكثر من القول في التنظير وإرساء الأصول والقواعد التي تحدد تلك الممارسة".

يقع هذا الكتاب في قسمين، خصَّص فضل أولهما لـ"سرد المصريين الكبار"، وفيه يتابع أهم الأسماء الروائية المصرية خلال 50 سنة تقريباً، من تلك الأسماء خيري شلبي، سليمان فيّاض، رضوى عاشور، صنع الله إبراهيم، محمد البساطي، محمد ناجي، نوال السعداوي، محمود الورداني، يوسف القعيد، إبراهيم عبد المجيد، وإبراهيم عيسى.

يرى فضل أنّ الرواية "أصبحت ملاذ الموهوبين فيها جميعاً، يلجأ إليها المبدعون في الشعر والموسيقى والرسم والسينما، ليُحيلوا الأحداث التى مرّوا بها، والتجارب التى عانوها، إلى سياقات سردية منتظمة".

أما القسم الثاني، المعنون بـ "مشهد السرد العربي"، فتابع فيه النتاج الروائي العربي من خلال محورين: رأسي، يتناول نتاج الكتّاب العرب من أبرز الأسماء وأكبرها سناً، مثل إبراهيم الكوني وحنا مينه وإبراهيم نصر الله، مارّاً بأسماء الأجيال الأحدث مثل خالد خليفة وسحر خليفة ولينا هويان الحسن وسنان أنطون وعلي المقري وربيع جابر وعلوية صبح، ثم أسماء أحدث أجيال الكتابة مثل أحمد سعداوي وسعود السنعوسي وجنى فواز الحسن...

المحور الثاني، وهو الأفقي، يغطي النتاج الروائي العربي وفق الامتداد الجغرافي من المحيط إلى الخليج، ومن الشام إلى اليمن، ومن شمال أفريقيا إلى السودان.

برّر فضل هذا التقسيم بالقول: "كان بوسعي أن ألتمس محاور محددة، أعيد من خلالها توزيع المقالات على أساسها في أبواب معينة، لكنّي أوثر أن أترك لها طابعها الأصلي في الفورية والعفوية والتنظيم المكاني، في النطاق المصري والعربي، والزمني في تحديد جيل الكبار المكرمين في جانب، والمبدعين العرب في جانب آخر".

استمرّ هذا المشروع عن الرواية في كتابه "أنساق التخييل الروائي" (الدار المصرية اللبنانية 2018)، الذي يقول فضل عنه: "تمخضت تجربتي التطبيقية في النقد الروائي، ومطارحة الأعمال الإبداعية خلال هذه العقود الـ3 الأخيرة، عن رصد عدد من الأنساق يتوافق بعضها مع الأساليب السابقة، ويختلف بعضها الآخر عنها، وهي لا تتولد مثلها من تفاعل بعض التقنيات الفنية، بقدر ما تنبثق من العامل المهيمن على العمل في جملته، ومع تجاورها وتحاورها وتراسل بعضها مع البعض الآخر. وقد أسفرت عن 7 أنساق من التخييل هي: التخييل الذاتي، والجماعي، والتاريخي، والأسطوري، والبصري، المشهدي، والعلمي. وقد كنت أفترض أن هناك نوعاً يمكن أن أطلق عليه التخييل الرقمي أو الافتراضي، الذي يعتمد على عالم الواقع المعلوماتي الافتراضي، لكنّي لم أعثر فيما قرأت على نموذج يمثل هذا الاتجاه".

اختار فضل في هذا الكتاب روايات من مختلف البلدان العربية، ومرّ على أسماء تنشر رواياتها للمرة الأولى. كتب معلِّقاً على ذلك: "تفجّرت ينابيع الإبداع الروائي العربي في كل المناطق، التي كانت شبه قاحلة أو قاصرة، امتصّت نسغ الحياة من أنابيب الثقافة العربية المستطرقة في اللغة وثورة الاتصالات".

يرى فضل أنّ الرواية "أصبحت ملاذ الموهوبين فيها جميعاً، يلجأ إليها المبدعون في الشعر والموسيقى والرسم والسينما، ليُحيلوا الأحداث التى مرّوا بها، والتجارب التى عانوها، إلى سياقات سردية منتظمة".

بفقدان صلاح فضل يفقد العالم العربي واحداً من نُقّاد الجيل الذهبي، ومن القلة القليلة التي استطاعت أن تواكب أبرز مظاهر النشاط الإبداعي في العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، ومن النادرين أيضاً الذين استطاعوا سدّ النقص في الحركة النقدية العربية.

يوسف م. شرقاوي