المقاهي الثقافية .. ملهمة الأدباء وحاضنة التاريخ الأثير

 لطالما كانت المقاهي مكانا لممارسة رياضة النقاش الثقافي، وتمنح المدن عمقا إنسانيا وحسا جميلا بالحركة والحيوية والاحتفاء بالحياة، وتحمل في ذاكرتها قصصا من أيام الحروب العالمية، وقصص المسافرين والرحالة والمحبين، وثقتها كتب التاريخ والأدب.

المقاهي الثقافية كانت وما زالت مجلسا أدبيا مصغرا، تعزز ثقافة الحوار والنقاش وثقافة الاختلاف والتنوير، بحسب ما ترى الروائية الدكتورة زينب الخضيري، التي تناولت - في لقاء استضافته مكتبة نادي الكتاب في الرياض - تاريخ المقاهي الثقافية حول العالم وتجربتها فيها، لتسافر بالقراء وجمهور واسع من زوار المكتبة إلى مدن وعواصم احتضنت مقاهي عريقة.

مكان للثرثرة أم للصمت؟

الأصل في المقهى أنه مكان للثرثرة، ثرثرة ضرورية للتشافي، وحينما يعتاد الإنسان على ارتياد مقهى معين، تتحول العادة إلى نوع من الإدمان الجميل أحيانا، والمفرط فيه أحيانا أخرى.

في الماضي كانت بعض المقاهي توفر جرائد وأحيانا نادرة مجلات لمرتاديها، وألعابا مثل الطاولة والنرد والورق، والآن أصبحت الكتب والتلفزيون والقنوات الفضائية هي المهيمنة، وتتساءل الدكتورة الخضيري “كم واحدا منا في بطولة كأس العالم الأخيرة لم يرتد مقهى مع كل مباراة مهمة؟”، وتؤكد أن الحضور للمقهى هو لغاية الكلام لا الصمت، والثقافة لا تزدهر إلا بالصمت، فكيف سنزاوج بين المتنافرين: الصمت والكلام؟ مثلما تساءل الكاتب أحمد العمراوي في أحد مقالاته.

في حديثها عن المقاهي، ترى الروائية أن كل مقهى يمثل وحدة سياسية واقتصادية وثقافية، وحدة متكاملة وكيانا مستقلا، مثل الأرواح، وهي في طبيعتها آليات للتنوير والتثقيف، مستشهدة بمقولة للشاعرة والناقدة الكويتية سعاد الصباح “القهوة هي أهم اختراعات الإنسان، والذي اخترعها، هو بغير شك، مصلح اجتماعي عظيم.. فبغير القهوة، لم تكن المقاهي، وبغير المقاهي لم يكن الحوار ممكنا، وبغير الحوار كان الإنسان جزيرة معزولة عما حولها”.

إلى موطن الجمال

تنطلق الدكتورة زينب الخضيري بقرائها في رحلة إلى إيطاليا، الدولة التي زارتها نحو أربع مرات، وظهرت المقاهي فيها بين القرنين الـ17 ومنتصف الـ18، ففي البندقية افتتح أول مقهى في 1720 على يد فلوريانو فرانشيسكوني، أول وأقدم مقهى في العالم، وما زال قائما حتى اليوم، ومعروف باسم “كافيه فلوريان”، وكان المقهى نقطة التقاء ومركزا للحياة الاجتماعية والثقافية في المدينة.

فيما كان أشهر مقاهي روما “أنتيكو جريكو” الذي تأسس 1750 مكانا للتجار والفنانين والنحاتين، وملتقى للكتاب منذ المراحل المبكرة لتشييده، ومن جلسائه الشاعر الفرنسي ستيندال، والشاعر البولندي آدم ميكيفيتش، ويحتضن لوحة زيتية من أعمال دومينيكو موريلي.

أما في فلورنسا، المتحف المفتوح موطن الجمال، يوجد مقهى “لو جويب روسيه”، الذي كان مكانا دائما للمؤلف والأديب الإيطالي الشهير سيلفيو جوارنييري، وأطلق على هذا المقهى لقب جامعة، لأنه لطالما كان يستضيف الاجتماعات التحريرية لكبرى المجلات والصحف الثقافية في العالم، وكان صحافيوها وكتابها من الزبائن الدائمين لهذا المقهى.

فرنسا

في كل مكان أو زاوية من باريس يقبع مقهى أنيق، ولعل اللبنانيين نقلوا ثقافة مقاهي الشانزليزيه إلى شارع الحمرا ببيروت، وفقا للدكتورة زينب الخضيري، التي صحبت القراء إلى أول مقاهي فرنسا، “باسكوا روزي”، الذي افتتح في 1672، ثم مقهى “دي بروكوبي”، الذي أسسه طاه إيطالي، وتغير اسمه إلى “بروكوب”، ليصبح أشهر مركز للحياة الأدبية والفلسفية، وكان الفيلسوف فولتير يشرب يوميا 40 فنجانا من القهوة المغطاة بالشكولاتة فيه، ويزوره أيضا بنيامين فرانكلين ونابليون وبلزاك وفيكتور هوجو وأناتول فرانس وآخرون، فيما كانت مقاهي “سان ميشيل” العريقة، معروفة بزبائنها من الشعراء والأدباء والسياسيين، مثل جان بول سارتر، المفكر والأديب الوجودي الشهير، وصديقته الأديبة سيمون بي بوفوار.

وذاع صيت هذا المقهى الشهير، بعد أن بدأ يرتاده الأمريكيون في فترة بين الحربين العالميتين وخلالهما. وأشهر الزبائن الأمريكيين هو إرنست همنجوي، والفنانون والأدباء، وعازفو موسيقى الجاز، ونتج عن ذلك أن أصبح المقهى الباريسي مقصدا سياحيا مهما، لا تكتمل زيارة باريس دون الجلوس فيه، والتسكع حوله، وهناك كتاب عرب كتبوا عن ظاهرة المقاهي الباريسية مثل الطهطاوي، وتوفيق الحكيم في “عصفور من الشرق”، وسهيل إدريس في “الحي اللاتيني”، وترجمات منير بعلبكي لـ “البؤساء” لفيكتور هوجو، أو “قصة مدينتين” لتشارلز ديكنز.

نحو مدينة المقاهي

في مدينة المقاهي “فيينا”، عاصمة النمسا، للدكتورة الخضيري حكايات، فقد زارتها خمس مرات، وتصفها بالمدينة الهادئة والجميلة، وشعبها مثقف، من أشهر مقاهيها الثقافية “هافيلكا”، وعمره يتجاوز 80 عاما، ويعد المقر المفضل لكبار الكتاب والأدباء والشعراء طيلة عقد الستينيات، لينافسهم الفنانون والرسامون أمثال المعماري المميز فريدريش هندرت فاسر والرسام المعاصر إرنست فوكس في السبعينيات والثمانينيات، أما مقهى “موزارت” القريب من دار الأوبرا، فأنشئ تكريما لموزارت بعد وفاته، وتاريخه يمتد لقرون، وبمرور الوقت، أصبح مركزا للقاءات الفنانين والصحافيين والكتاب.

ومن فيينا، تصحبنا الخضيري إلى براغ عاصمة التشيك، مدينة العمل والبؤس، مدينة كافكا، التي زارت مقاهيها الشهيرة، مثل “مونتمارتر” المقهى المعروف والمكان المفضل للكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا، رائد ما يسمى “الكتابة الكابوسية”، التي أضافها إلى مدرسة الواقعية العجائبية، ورغم إغلاق المقهى طوال 50 عاما بسبب الحرب العالمية الثانية، إلا أنه أعيد افتتاحه في تسعينيات القرن الماضي، وحافظ على حالته الأولى وعشق الكتاب والمبدعين له.

مقاه عربية

سحر المقاهي الثقافية ممتد، يتفق على مكانته الأدباء شرقا وغربا، وتسير بنا الروائية الخضيري إلى مقاه عربية، منها مقهى “الخفافين” في العراق بتاريخه الذي يعود إلى أكثر من 950 عاما، ومن رواده رموز الفكر والأدب مثل معروف الرصافي وجميل الزهاوي وعبود الكرخي، ومقهى الشابندر بشارع المتنبي، والمسمى الآن “مقهى الشهداء” لتعرضه إلى تفجير إرهابي في مارس 2005، وزارته في 2019، ولا يزال يحتفظ بإرثه ورونقه.

وفي سورية مقهى الهافانا في قلب العاصمة دمشق، ويشبهه رواده بمقهى الفيشاوي المصري لقدمه، وفي لبنان مقهى عرمرم المشهور بأمسيات “شهرياد” الثقافية الشهيرة من عزف وإلقاء وفن تشكيلي، ويمزج اسمه بين شهريار وشهرزاد، إلى جانب محلة الزيتونة، المقهى الهادئ المبني بالخشب على شاطئ بيروت، ويجلس فيه الأدباء ساعة الغروب في ندوة شاعرية، مثل بشارة الخوري وشلبي الملاط وأمين الريحاني وجورجي سعد وآخرين.

وفي الأردن، اشتهر مقهى العاصمة الذي رثاه الروائي الراحل مؤنس الرزاز بعد هدمه، فيما يجتمع الأدباء والمثقفون اليوم في مقاه أخرى باتت تشبه الصوالين الأدبية المفتوحة، مثل مقاهي عمون، الشريف الدولي، الفينيق، وجفرا.

وإلى مصر، حيث يروي المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه “المصريون المحدثون” أن القاهرة في بدايات القرن الـ19 كانت تحتضن أكثر من ألف مقهى، واصفا مجالس الحكواتي والسير الشعبية قائلا “القصاص يغشون مقاهي القاهرة وغيرها من المدن، في ليالي الأعياد الدينية خاصة، ويسامرون الناس ببراعة تجذب القلوب”.

بعد ثقافي للمقهى

تستند الروائية زينب الخضيري في رحلتها حول العالم إلى مراجع متعددة، منها زياراتها إلى المقاهي الثقافية، وكتاب “المقاهي الثقافية في العالم” للكاتب كامل رحومة، فضلا عن كتاب “حبوب البن الساحرة التاريخ المختصر للقهوة” لجوردون كير، وكتاب “ملامح القاهرة في 1000 سنة” لجمال الغيطاني، الذي ذكر أن المقهى القاهري لا يقل عراقة وحضورا وتنوعا عن المقهى الباريسي.

ففي المقاهي كتبت الخضيري روايتها “هياء”، وكذلك روايتها “على كف رتويت” التي رسمت من خلالها عالما كاملا في مخيلتها، من مجرد لحظة قصيرة في عين الزمن في أحد مقاهي روما في 2014، وهو مقهى جريكو التاريخي، الذي شيد قبل 250 عاما، وسبقها نجيب محفوظ الذي استوحى من مقهى الحرافيش رائعته رواية “الحرافيش”.

واليوم، تسعى هيئة الأدب والنشر والترجمة من خلال مبادرة الشريك الأدبي إلى إثراء تجربة المقاهي وتعزيز دورها في ترويج الأعمال الأدبية بشكل مبتكر، لتجعل من زيارة المقهى تجربة ثقافية مختلفة، ثرية وملهمة.