ما تفعله الكلمات وما تمنحنا إياه اللغة في تعدديتها

 الكتاب: ما يمكن أن تفعله الكلمات 

تأليف: باربارة كاسان 

الناشر: دار بوكان – باريس - 2022

مراجعة: عفيف عثمان

Barbara Cassin, Ce que peuvent les mots - Collection .

Bouquins (Paris, 2022).1056 Pages.  

يقتضي الأمر في المقام الأول التعريف بصاحبة هذا السفر الكبير من النصوص والمقالات والترجمات وانشغالاتها. هي الباحثة الفرنسية باربارة كاسان (B. Cassin) (مواليد العام 1947)، عضو الأكاديمية الفرنسية، فقيهة لغوية ومختصة في الفترة الهيلينية،  ينصب اهتمامها على الفترة ما قبل السقراطية (القرن الخامس قبل الميلاد)، وترى الى تاريخ الفلسفة انطلاقاً من المرحلة السفسطائية اليونانية، حيث تعتبر أفرادها أرباباً للثقافة والديمقراطية والخطابة. عاشقة للغة والكتابة في كافة أشكالها، منذ يفاعتها وهي تغذيها بالقصائد. ولم تكف الكلمات يوماً عن أن تحضر في قلبها ووجودها، ولم تحصر نفسها في فرع معرفي بعينه. ناشطة ثقافية في اليومي والحالي من الحوادث، تكتب وتُدرّس في الجامعات وتحاضر في المؤتمرات. فيلسوفة، في تكوينها الأساسي، لكن من خلال قراءتها للنصوص اليونانية وترجمة البعض منها، أدركت ما هي اللغة، فرادتها وقوتها، وداخلها وخارجها المدهشان، وكيف تصنع العالم من خلال قولها.

تنوع اللغات شرط للنماء

يشكل "قاموس ما لا يمكن ترجمته" (Le Vocabulaire européen des philosophies, Dictionnaire des intraduisibles). أحد المداخل الرئيسية في عمل كاسان. وقد نُشر الكتاب في فرنسا عام 2004، وشارك في كتابته 150 مؤلفاً بمن في ذلك كاسان نفسها ويجمع حوالى 7000 كلمة أو تعبير في حوالى خمسة عشر لغة أوروبية. من خلال عدم الترجمة، لا ينبغي للمرء أن يفهم الكلمات التي ليست عرضة للترجمة، ولكن بالأحرى المصطلحات الملتبسة بشكل أساسي والتي لا يمكن أن تتلقى معنى واحداً أثناء عملية الترجمة. 

في الواقع، غالباً ما تظهر كمصطلحات متعددة المعاني، من وجهة نظر اللغات التي ليس لها معادلات فريدة لترجمتها. كلمة "pravda"  "برافدا" الروسية، على سبيل المثل، تعني بالفرنسية كلاً من "الحقيقة" و"العدالة". وعلى العكس من ذلك، فإن المصطلح الفرنسي "الحقيقة" هو أيضاً متعدد المعاني في اللغة الروسية. وهكذا، تنقل اللغات المختلفة شبكات من المعاني وتجعل من الممكن إنشاء عوالم خاصة لكل منها. وبالتالي، فإن تعدد اللغات يصبح شرطاً لتصورات مختلفة، كل واحدة غنية مثل الأخرى، لعالمنا. وهو ما توضحه كاسان من خلال اقتباسها من  الفيلسوف البروسي فون الكسندر همبولت(Humboldt) (1835 – 1767): "تنوع اللغات هو شرط فوري لنا لكي ننمو في ثراء العالم وتنوع ما نعرفه عنه، وبالتالي في نفس الوقت تتسع مساحة الوجود البشري لنا، ويتم تقديم طرائق جديدة في التفكير والشعور في ظل سمات محددة وحقيقية. لذلك فإن تعدد اللغات يخلق تعدد المعاني الذي يقينا من  أخطار التأحيد".

تصر كاسان بشكل خاص على البعد السياسي لقاموس "ما لا يمكن ترجمته"، والذي يجعل من الممكن تجنب مأزقين: من ناحية، توحيد اللغة المتصور كوسيلة بسيطة للتواصل مع غلبة "globish" (اللغة الإنجليزية العالمية) وهو موجود حالياً في الهيئات الدولية، من ناحية أخرى، "القومية الأنطولوجية التي تؤسس تسلسلاً هرمياً بين اللغات من خلال الادعاء، مثل هايدغر في ما يتعلق باللغتين اليونانية والألمانية، بمعنى أن هناك توافقاً معيناً بينهما في ممارسة الفكر والعمق المفاهيمي وحدهما فحسب. 

في مديح الترجمة (2016)، ترى كاسان أن احترام اللغات الأخرى يظهر في الترجمة، فهي تعني الذهاب الى ديار بعيدة، وآنئذً نرى أنفسنا من هناك، أي نُدرِك التنوع والتعدد، وأن الشعوب أشبه بـ"قوس قزح". ودعت الشباب الى تعلّم الترجمة، ما يُعادِل القراءة والفهم والمقارنة والدخول في صلات مع العالم. لذا، كان مشروعها الجريء هو بناء بيوت الحكمة، فضاءات للنقل الثقافي تتمحور حول الترجمة، كما كانت موجودة في القرن التاسع في بغداد. ظهر اثنان منها، في مدينتي مرسيليا وأوبرفيلييه، حيث تعمل كاسان مع "أولئك الذين يأتون من بعيد"، وهي صيغة تفضلها على كلمة مهاجر، وتدعو  من أجل "مجتمع ضيافة".

ماذا يعني أن نتكلم؟

هل يمكن للواقع أن يتماشى مع رغبات الكلمات التي تدعو إلى عالم آخر؟ هل تستطيع القوة التعويضية للغة تعديل الواقع؟ ماذا يعني الكلام حقاً؟ الأمر الذي يذكرنا بكتاب عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيار بورديوP. Bourdieu (2022 - 1930) "ماذا يعني أن نتكلم: اقتصاد التبادل اللغوي"  Ce Que Parler veut Dire (1982). 

الكثير من الأسئلة التي تطرحها الفيلسوفة على نفسها في هذا الكتاب. لكن ما يهم قبل كل شيء هو التحدث بالطبع، ولكن بمعنى "التصرف ضمن اللغة". بالفعل، كان الإغريق على يقين من أن اللغة يمكن أن تفعل أي شيء. هذا كلّه، بحسب رأيها، يغيّر العالم، لأن الكلام قبل كل شيء يبني شيئاً مشتركاً. من الضروري التفكير في لغة يمكن أن تتصرف بقدر ما تعبّر عنها لأنها تعتبر "إذا كان المرء منذ بدايات الفلسفة" يتكلم ليتحدث"، فإن الأمر يتعلق بتصور الفكرة، بخلاف هذه العلاقة البسيطة للغة أن الكلام يعني الفعل، أي أن تلد العالم من خلال "ما يمكن للكلمات" أن تصنعه.

التزام بخدمة الكلمات، باسم حبها لليونان، الترجمات وتعدد اللغات، عمل شعري سياسي بمعنى أنها تعتبر أن كل اللغات تستدعي بطبيعة الحال روابط بينها، تغذّي العلاقة المشتركة مع العالم، حيث استبعد التعبير أحادي اللغة سابقاً  فهم لغة الآخرين، وأي إمكانية للعمل الجمعي من خلال اللغة. تنتهز كاسان الفرصة للتوكيد على أن لغتنا متعددة، وإلى أي مدى يربط تنوع اللغات الإنسانية،  ويغنيها في ثقافاتها: "إنها الحالة البشرية الجديدة، ولم يعد الآخرون يعتبرون برابرة مثل في زمن الإغريق. اليوم، الثراء الكبير للغتنا يجب أن يعمل عليه الآخرون، الذين لديهم المكانة نفسها والذين يمكنهم القيام به والبناء بشكل جمعي. هناك بالفعل أكثر من لغة واحدة في داخل اللغة الفرنسية، الفرنسية تتكون من الكثير من الكلمات التي تأتي من كل مكان والفرنسية تعمل على لغات أخرى".

يضم المجلد الضخم نصوصاً باتت مفقودة لكاسان، ومنها ترجمات (غورجياس تحديداً) وقد قادتها معرفتها بالشاعر الفرنسي رينيه شار (R. Char) والفيلسوف الألماني مارتين هايدغر (M. Heidegger) الى إعادة التفكر في الصلة بين الفلسفة والشعر، وطرحت على نفسها هذا السؤال: "هل يمكن للمرء أن يكون من مؤيّدي فلسفة ما قبل سقراط وبطريقة أخرى؟"، هل يُمكننا (أن نجيب إجابة مختلفة عن هايدغر و) ألا نجعل من بارمنيدس، ومن اليونان، ومن اللغة اليونانية، فجراً مُطلقاً، يُنحّي كل شيء آخر إلى البربرية، كل شيء باستثناء اللغة الألمانية، التي هي يونانية أكثر من اليونانية، والتي هي أيضاً "أصلية"، بمعنى أنها "متجذرة في عِرقٍ مُحدّد وشعب مُحدّد"؟( من مقابلة مع الباحث الألسني د. بسام بركة).

وعاينت كاسان ما تستطيعه اللغة ومنها صوغ العالم أيضاً بالكلمات.  إذ أنّ التقليد اليوناني العظيم، وفاقاً لها، يميِّز بُعدين اثنين من الكلام. الأول هو "الكلام عن"، أي قول شيء ما عن شيء ما، في عبارات تهدف إلى الحقيقة، وإلى التطابق بين ما يُقال وما هو كائن. والفلسفة كلها تكمن هناك. والبُعد الثاني هو "الكلام إلى"، وهو لا يهدف إلى كشف الحقيقة، بل إلى الإثبات والإقناع. البلاغة وفن الخطابة يكمنان كلاهما هنا. ومع ذلك، هناك بُعد ثالث يختلف عن هذين البعدين، والذي تسمّيه كاسان – مُتبعةً الفيلسوف الأميركي جون أوستن(J.L. Austin) - البُعد "الإنشائي" (Le performatif) (تساعد الجمل الإنشائية الملفوظات في إكمال فعل ما). فهو لا يهدف لا إلى الحقيقة ولا إلى الإقناع، بل يهدف إلى شيءٍ ما مثل التأثير والفعالية والكفاءة. 

يُقدّم أوستن، في كتابه "كيف نفعل الأشياء بالكلمات"(How to do things with words) (1962)، أمثلة صغيرة على ذلك.

وترى كاسان أن الكائن لا يوجد قبل أن يوجد الخطاب، فالخطاب هو الذي يجعل من نفسه "الراعي الأمين" له، وفق عبارة هايدغر (من مقابلة كاسان مع بركة). هذا، وتعلّمنا تعددية اللغات الكثير في زمن سيطرة اللغة الإنجليزية الرديئة على المشهد الكوني وابتسارها للفكر. 

وتدعو الفيلسوفة الفرنسية الى المقاومة: المقاومة ضد "العولمة الحتمية وغير الصحية، والتي يكون المناخ واللاجئون ضحيتها الأولى".

يبدأ كل شيء عند كاسان من الصلة بين الفلسفة والسفسطة، في محاولة لإنشاء تاريخ آخر للفلسفة، يُظهر نماذج لغوية أخرى، ونماذج سياسية مغايرة أيضاً. فمع  السفسطائيين: "أرباب اليونان" الأسياد في الكلام وفي السياسة، كما يقول هيغل عنهم، لا يتعلق الأمر بـ"الكلام عن" أو "الكلام الى"، ولكن صنع أشياء مع الكلمات، لذا تأخذ صفة "الإنشاء" (أو الأداء) (Performance) موقعها الرئيسي.

والفترة العتيقة التي تسبرها كاسان ذات راهنية كبيرة. فهي في بحثها في "لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا" ترى الى قوة الكلمات، فقد ذهب رئيس أساقفة كيب تاون، دزموند توتو(Desmond Mpilo Tutu) (2021 - 1931)، إلى القول إنه وخلافاً لما هو معروف من التعامل مع اللغة بوصفها كلمات فحسب، وليست أفعالاً، فإن اللجنة ترغب في تبنّي وجهة نظر أخرى هي "أن اللغة خطباً وبلاغة تصنع الأشياء". ففي اللجنة آنفة الذكر جرى رسم ثلاثة شروط بدت ضرورية للمصالحة: سياسة للعدالة وسياسة للذاكرة وسياسة للكلام، وهذه الأخيرة تفرض على طالب العفو أن يُقر (يتكلم) بصراحة عن كامل أفعاله: "الحرية في مقابل الحقيقة".

وترى كاسان أيضاً قوة اللغة في التحليل النفسي أو الصلة بين المعنى واللامعنى عند مكتشف قارة اللاوعي، سيغموند فرويد (S. Freud)، وجاك لاكان (J. Lacan)، وتنقل عن هذا الأخير زعمه" أن التحليل النفسي هو حضور السفسطة في عصرنا".

تستعين الكاتبة بالفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت (H. Arendt) (1975- 1906) لتشرح الصلة بين اللغة والوطن، فأرندت ترى أنه من الحنين (النوستالجيا) تبقى اللغة، واللغة الأم وليس الأرض هي ما يمثل الوطن عندها. فتقدم نموذجاً عن انعدام الصلة بين اللغة والشعب، فهي، في زعمها، لا تنتمي لأي شعب، لا الألماني ولا اليهودي ولا الأميركي، بيد أنها تحتفظ بلغتها الأم، التي لا نظير لها، في تلك النبرة التي نصطدم بها مثل لغة تحت لغة المنفى. تتساءل كاسان: متى يكون المرء في داره؟ وتجيب: عندما يُستقبل في مكان ما، يُستضاف هو ولغته على حد سواء.

تتناول الباحثة تعريف الثقافة والديمقراطية مع معامل البحث "غوغل"، والضيافة والبربرية، وأخيراً، تمتدح كاسان سلطة الكلام والأصوات التي تحوطنا، وتبيّن قوة فعل اللغة في تعدديتها والتي تمنحنا عدة طرائق تفكير وإدراك لمخيالنا ولعالمنا.

عفيف عثمان - باحث لبناني يدرّس في قسم الفلسفة والحضارة في الجامعة اليسوعية ببيروت