"الهوسة": شعر مُغنّى حفظ جزءاً من تاريخ الشرق السوري

 منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان نادي "الفتوة" يتّخذ من مدينة الحسكة أرضاً بديلة له، لخوض مبارياته ضمن الدوري السوري لكرة القدم. كانت "باصات السكانيا" التي يرفع ركابها الرايات الزرقاء تشقّ طريقها نحو ملعب "تشرين"، عبر الحي الذي أسكن فيه، مع ترديد أغانٍ وهتافات لم أكن أميز معانيها في ذلك الوقت. طلبت من والدي أن أحضر إحدى المباريات، وتمّ الامر لي، لأعود إلى البيت وأنا أردد الهتافات التي سمعتها من الجمهور، وكنت أطوف في المنزل وأنا أهتف "يا حبابة ويا حبابة.. ما أحلى ركبك على الدبابة". 

لم أكن أعي إلا المعنى الظاهر للهاتف، وهو التغزّل بركوب "الجدة"، التي يطلق عليها لقب الـ"حبابة"، فوق دبابة. ولكن ما المقصود بهذا الهتاف؟ وكيف يمكن لإمرأة عجوز أن تركب آلية عسكرية؟ وما الذي يدفعها لمثل هذا الفعل أساساً؟ 

وفي كل مرة أردد فيها هذه الجملة، كان والدي ينهرني عن الضجيج بقوله "يكفي تهوّس"، والمعنى هنا "كُفّ عن ممارسة الهوسة".

وإن هلهلتي هلهلنالج (ك)

غالباً ما سمع السوريون (والفلسطينون أيضاً) أهزوجة تبدأ بـ"وإن هلهلتي هلهلانك.. طَقّينا البارود قبالك". يعود أصل هذه الجملة إلى معركة "النسورية"، التي يروي تفاصيلها الكاتب أسعد الفارس، في كتابه "شعب ومدينة على الفرات الأوسط"، وهي معركة كان طرفها الأول قبيلة "العكيدات"، التي تقطن الريف الشرقي لمحافظة دير الزور السورية، وطرفها الثاني القوات الإنكليزية، التي تقدّمت من العراق إلى الداخل السوري لتحتلّ المحافظة، وكانت هذه المعركة واحدة من المعارك التي خاضتها العشائر العربية ضد الوجود الإنكليزي، وجرت في حزيران/يونيو من العام 1919، وتمكّن فيها الثوار من قتل قائد الحملة، الكولونيل مركي، الذي ظلّ سيفه محفوظاً في منزل قائد الثوار آنذاك، فارس الجراح، وتمّ توارثه من قبل أبنائه إلى يومنا هذا.

وتُنسب هذه المعركة إلى "تل النسورية"، الواقع اليوم بالقرب من بلدة "الجلاء"، كما يعرفها سكان المنطقة بـ"يوم الذبحة"، نسبة إلى الوادي المجاور للتل نفسه، وتمكّن الثوار خلالها من اغتنام عدد من الأسلحة الرشاشة من القوات الإنكليزية، تبرّع بها لاحقاً الشيخ فارس الجراح لصالح جيش الإنقاذ في العام 1948، كما تمّ دفن عددٍ من قتلى الإنكليز بالقرب من التل، في منطقة لا تزال تُعرف لإلى اليوم باسم "قبور الإنكليز". وبعد هذه المعركة راح الثوار يرددون "هوسة"، قالوا فيها:

وإن هلهلتي هلهلنالج 

طقينا البارود اقبالج

والعفن اللي ما هو من رجالج

يرحل ما يريد مقابلنا

تحريف للنص

فايز الجدوع هو واحد ممن شجعوا أندية كرة القدم في المنطقة الشرقية من سوريا لفترات طويلة. يقول الشاب الذي يعمل مصوراً صحفياً : "كنا نردد مجموعة من "الهوسات"، من بينها "من فوق التل إحدرناهم... عشرة وحارسهم وياهم"، ولم يكن في بداية الأمر معروفاً بالنسبة له أصل هذه التسمية. إلى أن سمع من أحد معمِّري مدينة دير الزور أنَّ هذه الهوسة تعود إلى "معركة السن"، التي تُعَدّ جزءاً من "ثورة العنابزة"، ومن معهم من أبناء العشائر العربية ضد القوات الفرنسية. ووقعت هذه المعركة بالقرب من "تل السن"، المشرف على بلدة "خشام"، وفيها تمكّن الثوار من السيطرة على التل، الذي رغبت القوات الفرنسية في أن يكون منطلقاً للسيطرة على الضفة الشرقية من نهر الفرات في العام 1921. وبعد استعادة الثوار للتل واغتنام مدفعين للقوات الفرنسية، راحوا يرددون:

من فوق السن إحدرناهم 

تسع مية وضابطهم وياهم 

حمود الحمادي جاهم 

وجاب "مطر اللوز" ميسر.

وقصد الثوار حينها بـ"مطر اللوز" مدافع "ميترلوز" العائدة للفرنسيين، و"ميسر" هنا تعني مأسور أو مغتَنَم.

يقول صبحي المحمد، المتحدّر من بلدة "خشام": "كنا نردد خلال المباريات "هوسة" تقول "ع الدير استر.. والما ياخذ حقه بيده.. يقعد بين النسوان أستر". إلا أنني عرفت متأخراً أن أصل الهوسة هو "ع الدير افتر"، أي توجه وأقبل باتجاه دير الزور للأخذ بالثأر. كان الثوار يرددون هذه الهوسة عقب استشهاد حمود الحمادي، إثر محاصرته في بيته من قبل الكتيبة السنغالية التابعة للجيش الفرنسي وحَزِّ رأسه، ليُنقل إلى فرنسا نظراً لكونه واحداً من أكثر الشخصيات التي ألحقت خسائر بقواتها، فيما لا يزال بالقرب من القرية منطقة تعرف باسم "قبور السنغاليين"، والتي تضم جثث قتلى الكتيبة، التي استخدمت سياسة الأرض المحروقة لتتمكّن من دخولها وبسط نفوذها في منطقة الجزيرة، التي تُعرف اليوم باسم "شرق الفرات". 

في كتابه "السيرة الذهبية لدير الزور"، ينقل عسان الشيخ الخفاجي مقتطفاً من لقاء أجرته مجلة "العمران" مع طايس حمود الحمادي، ما حرفيته: "لقد أسرنا الكثير من جنود فرنسا، ومنهم عرب من مستعمرات فرنسية أخرى، فأطلقنا سراح العرب والباقي نالوا الجزاء العادل".

قومة المو حسن

مع تمدد قوات الاحتلال الفرنسي، تمكّن إقطاعي اسمه جميل حسن هنيدي من السيطرة بالاحتيال، وبدعم من قوات الاحتلال الفرنسي، على مساحات زراعية بالقرب من مدينة دير الزور، وتابع سيطرته على أراضٍ جديدة على مراحل، مستفيداً من وجود قريبه عبد الرحمن هنيدي في منصب وزير الداخلية في عهد أديب الشيشكلي، الأمر الذي دفع الفلاحين في قرية "موحسن"، خلال صيف العام 1956، إلى التمرد والبدء بحراك مسلح ضد من وظفهم "ابن هنيدي" لحمايته من أبناء المنطقة، وكانوا يرددون خلف شاعرهم حمود العبد الله العواشي "هوسة" قال فيها:

يا جميل أشوفك بِديـــن

شبعان ومِنتَ بحالنا

جنّب عن الحاوي يمين

انريد انعَيّش اعيالنا

تدخلت السلطات آنذاك لفضّ الاشتباك، واعتقلت عدداً من المنتفضين. وبعد مظاهرة حاشدة أمام مقر المحافظ محمد نور الله أُطلِق سراح من تمّ توقيفهم، وراحوا يرددون "هوسة" أخرى جاء فيها "ابن هنيدي صاير واوي.. عالدّكَة الصارت بالحاوي". والمقصود بـ"الدكة" هنا هو حدث القبض عليهم، أما "الحاوي" فهو المنطقة المحاذية للفرات في قرية "مو حسن"، وهو المكان الذي وقعت فيه الحادثة.

أصل التسمية 

يوضح الكاتب عبد القادر عياش أنّ لـ"الهوسة" تسميات أخرى، مثل "الحندة" وهي تسمية متداولة في دير الزور، لا تزال مستخدمة حتى اليوم بشكل منفصل عن "الهوسة"، للدلالة على حالة الصخب الناتجة عن الغناء مثلاً. كما يقول عياش في كتابه "من التراث الشعبي الفراتي"، أن الهوسة لا تشبه "العقيلية" التي تنتمي إلى "نجد"، إلا أنها تشبه "العرضة" التي تنتشر في دول الخليج، والتي يشكّل فيها الرجال صفين متقابيلن ويرددوا الأبيات الحماسية على وقع الدفوف والطبول. 

ومع وجود "الهوسة" في العراق، يرجّح عياش فرضية ابتداع "الهوسة" من قبل الفراتيين، وهي ترتبط بالأحداث الاجتماعية ولا تُعَدُّ من "الترف الفكري أو الأدبي"، الذي قد يمارس في الأحوال العادية.

وفي الكتاب ذاته، يقول عياش إنّه كان يوجد "في كل قبيلة من يقول شعر الهوسة، وقد يختص به مضمناً إياه الفخر بالعشيرة وأفرادها، ومعاني الحكمة ووصف الخيل، وربما وصف الغزوات والفخر بالانتصارات، وهذا النوع من الشعر هو في الغالب من شأن الرجال وحدهم، وقد تتصدى المرأة لشعر الهوسة ولكن في مناسبات خاصة، ولشعر الهوسة طقوس خاصة حيث يصنع الرجال حلقة على صوت قرع الطبول، يتمّ فيها إنشاد أبيات الهوسة، أو أنّ الرجال يسيرون في موكب ويحملون البنادق ويطلقون العيارات النارية، وأحياناً يحملون السيوف والعصي، وعموماً كان أبناء الفرات مولعين بهذا الفن البلاغي".

بدوره، يقول فايز جدوع: "حالياً يقود الهوسة شخص يعرف منذ زمن طويل بـ"المهواس"، وهو أول من يبدأ بالهتاف ليردد خلفه الحاضرون. وغالباً ما يسبق بداية الهوسة بنداء "ها خوتي ها"، وينتظر منهم الرد بصوت واحد "ها"، ويبقى يردد هذا النداء حتى يشعر من خلال علو صوت الحاضرين أنّ الكل منتبه ومشدود وجاهز للهتاف خلفه، ومن ثم يبدأ بترديد ما يريد قوله في الهوسة. مثل قول الثوار عقب معركة مطار دير الزور في العام 1921:

يافرنساوي وين حـــــدودك

 تحاربنا من دون جدودك

ما شفت يوم أنا نحــــــــودك 

ونسيّر ضباط العســــــكر".

ومعنى كلمة "نحودك" في هذه الهوسة نطاردك، أما كلمة "نسيّر"، فجاءت بمعنى نأسر.

محمود عبد اللطيف - كاتب  سوري