الكرامة الإنسانية .. مقصد مقاصد الدين

 الكتاب: الدّين والكرامة الإنسانيّة

تأليف: د. عبد الجبّار الرفاعي. 

الناشر: دار الرافدين – بيروت – 2023 

يقول المؤلّف الدكتور عبد الجبّار الرفاعي في مقدّمة الطبعة الثانية من كتابه "الدّين والكرامة الإنسانيّة"، إن أكثر الكتابات المتمركزة حول الإنسان تنسى الدين، وأكثر الكتابات المتمركزة حول الدين تنسى الإنسان. لكن الدين يبدأ باكتشاف الإنسان وإعادة تعريفه ليصل إلى الغيب، ولا يبدأ بالغيب ليصل إلى الإنسان. يحاول الدين اكتشاف الإنسان أوّلاً، في ضوء معطيات الفلسفة والعلوم والمعارف البشرية المتنوّعة والمتجدّدة، ليحدّد ما هو ماديّ من احتياجاته، وما هو عقلي، وما هو عاطفي، وما هو روحي. 

وهذا الكتاب ينطلق من الإنسان إلى الدين؛ ومفتاح فهمه للدين ونصوصه هو الكرامة الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين. فالإنسان يولد مُكرّماً، والكرامة توجد بوجود الإنسان وتلبث معه أبداً حيثما كان. الكرامة رديفة الاستخلاف؛ خليفة الله في الأرض جعله قيّماً وحافظاً ووكيلاً ونائباً عنه في الأرض. وعليه، يرى المؤلّف أن تجديد فهم الدين يتطلّب: إعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين، وإعادة قراءة نصوصه في أفق العصر، وإعادة تحديد وظيفته في الحياة، والكشف عمّا يمكن أن يقدّمه الدين للإنسان من احتياجات روحية وأخلاقية وجمالية. 

يعتقد الدكتور الرفاعي أن الدين يتغلغل في كلّ شيء في حياتنا بصورة ظاهرة وخفيّة؛ وكلّ محاولة لإعادة البناء التربوي والتعليمي والثقافي، وإعادة بناء المجتمع، لا تبدأ بإعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين، وبناء فهم جديد لنصوصه، تموت لحظة ولادتها. لكن قراءة هذه النصوص يجب أن تتم ضمن رؤية تنتمي إلى عالمنا كي تنتج المعنى الديني المتناغم مع إيقاع حياتنا ومتغيراتها المتواصلة. 

ويضيف: لقد أخفقت مشاريع ودعوات القطع الجذري مع التراث، ولم توصلنا إلى أية محطة لبناء الفرد والمجتمع والدولة. والطريق الصحيح هو دراسة التراث دراسة علمية معمّقة، والتوغل في اكتشاف بنيته التحتية ورؤيته للعالم، في ضوء منطق العلوم والمعارف الحديثة، ومغادرة ما استنفد غرضه فيه، ولم يعد صالحاً لغير زمانه. 

ويذكر المؤلّف في أكثر من موضع في كتابه أن الإنسان غاية الدين؛ وكلّ دين لا تكون غايته الإنسان ليس إنسانياً؛ فجوهر إنسانية الدين حماية الكرامة، ورفض كل أشكال التمييز بين الناس. والإنسان وكرامته وسكينته وطمأنينته وإسعاده غاية ما ينشده الدين. 

ويوضح أن الكرامة ضرورة للفرد وكذلك للأمّة؛ تبدأ بكرامة الفرد لتنتهي بكرامة الأمّة. وكلّ مجتمع تكون كرامة الأفراد الشخصية فيه مُستلبة هو مجتمع مُستلب الكرامة، مشيراً إلى أن الإنسانية هي قيمة كونية عابرة للأعراق والثقافات والأديان، والكرامة هي الإطار الأخلاقي الذي تتوحّد فيه قيمة الإنسان ومكانته، وتقديره لذاته وتقدير الغير له. 

إن المعيار الكليّ لاختبار إنسانية أي دين هو كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتلّه الكرامة في منظومة القِيم لديه. وإنسانية الدين تلخّصها نظرته للكرامة بوصفها القيمة التي تستحضر كلّ قيمة، وتتّسع لكلّ الحقوق الأساسية، وتضع الحريّة غاية تتطلع لاستردادها على الدوام كاملة غير منقوصة. 

ويؤكد المؤلّف أن احترام الكرامة الإنسانية هو مقصدُ مقاصد الدين وأسمى أهدافه؛ وذلك يفرض أن يُعاد تفسير كلّ نص ديني بما لا ينقض الكرامة أو ينتقص منها. إن كل نصّ يتعارض مع هذا المقصد الكلي، ويقوم على التمييز بين البشر، سواء كان آية أو رواية، مثل تشريع الرقّ وما يماثله، يُطرح وينتهي العمل بأحكامه، لأنه ينتمي إلى التاريخ ويعكس ظروف مجتمع عصر البعثة الشريفة. 

وفي السياق يشرح الرفاعي المفتاح المنهجي الذي اعتمده في تفسيره للقرآن الكريم وفهم الأحاديث والروايات، وكيفية التمييز بين ما هو ثابت من القِيم الروحية والأخلاقية الأبدية، وما هو متغيّر من أحكام تنتمي إلى ظروف وأحوال مجتمع عصر النزول. ويتوقف عند مسألة القِيم كضرورة لأنسنة الإنسان، والتي يتحوّل بدونها إلى كائن متوحش مخيف. 

إن الكرامة والكونيّة هما المعيار الذي تتحدد على أساسه القِيم الأخلاقية؛ بمعنى أن هذه القِيم شاملة، وأنها قانون كليّ يصلح للتعميم لكلّ الناس الذين تتوحّد مصائرهم في الأرض. فمهما كان الإنسان هو يحتاج إلى الكرامة، لأن الكرامة تتحقق بها إنسانيته، وهو يحتاجها بوصفه إنساناً، بغضّ النظر عن دينه وإثنيّته وثقافته وعصره. كما يحتاج الإنسان مهما كان، إلى الصدق والمساواة والحريّة والعدالة والأمانة؛ وكلّها تكرّس الكرامة وتحميها من الانتهاك. 

وفي ذلك، يقول المؤلّف إن منظومة الأخلاق المعروفة بالآداب الشرعية في الإسلام لم تعد كافية لتأمين القِيم الأخلاقية المشتركة للحياة في فضاء التحديات العالمية، وما يفرضه على المسلم واقع جديد أصبحت مشكلاته الكبرى وتحدياته العظمى شاملة لكلّ الإنسانية، مثل: تلوّث البيئة، والتغيّر المناخي، والاحتباس الحراري العالمي، والانفجار السكّاني؛ وما تعِد به هندسة الجينات، والذكاء الصناعي، من مكاسب متنوعة ومثيرة، ما زالت تُثري الحياة وتمكّن الإنسان من توفير احتياجاته وحلّ مشكلاته، وما يمكن أن ينتج عنهما من آثار غامضة مريبة في الغد. فالذكاء الصناعي مثلاً يمكن أن ينتهي في المستقبل إلى الإفلات من قبضة الإنسان، فيحدث صدام الروبوتات فيُربك حياة الإنسان ويهشّم أمنه ويغرقه في أحداث مباغتة لم تكن في الحسبان. 

أما في العصر الراهن، فقد أضحى الإنسان ضحيّة استبداد السلطات السياسية والاقتصادية في مختلف البلدان، كل منها بطريقتها الخاصة في إدارة السلطة والثروة؛ كما هي حال الصين وأكثر المجتمعات الشرقية والولايات المتحدة وأكثر المجتمعات الغربية، حيث أمست كرامة الإنسان وحريّاته وحقوقه قرباناً لإيديولوجيات السلطات الحاكمة؛ ولم يعد الإنسان هو الغاية. بل تحوّل إلى وسيلة لمراكمة الإنتاج المادي والتوسع في الاستهلاك، ونُسيت احتياجات الإنسان الروحية والأخلاقية والجمالية.

وعلى مستوى مجتمعاتنا، تتجذّر تقاليد الإذعان والخضوع والطاعة العمياء، والمشتقّة من قِيم البداوة والتقاليد القبلية، ومن نمط تديّن كلامي فقهي راسخ، يضمحل فيه حضور مقاصد الشريعة وقِيمها المركزية، ومن استبداد مقيم، متجذر ومتراكم عبر تاريخنا البعيد والقريب، والذي لا ينجز أهدافه إلاّ بمحو الفردية. 

في إطار البنية الكلامية للأخلاق، يحلّل المؤلّف قضية التكفير كمأزق جوهري للأديان. إن التكفير هو ضرب من العنف؛ فهو عنف لفظي يتضمن قذفاً وتشهيراً وترهيباً، وهو حكم إقصائي يغترب المكفّر بسببه عن مجتمعه، عندما يحاصره التكفير ويجتثّه من عالمه. والتكفير لم يقتصر على تكفير غير المسلم فقط، بل اتّسع ليستوعب المسلم المختلف في عقيدته الكلامية ومذهبه الفقهي. وعندما نعود إلى آثار المتكلّمين والفقهاء لا نجد فرقة واحدة تنفرد بتكفير المسلم، بل نجده متغلغلاً في أكثر مؤلّفات الفرق، حيث نرى ابن تيميّة وغيره يكفّرون كلّ مسلم يختلف عنهم في معتقده، إذ يكفّر ابن تيميّة من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوّفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الإثني عشرية، والقدرية؛ وهكذا فعل غيره. 

ولذا، يدعو الرفاعي إلى أن تكون الكرامة الإنسانية بمثابة المعيار أو المرجعية أو المقصد، كما يُقال في مقاصد الشريعة. الكرامة هي مقصد من مقاصد الشريعة، ولا يجوز أن نقرأ نصاً دينياً ينتقص من هذه الكرامة؛ ولا بدّ أن نحتفظ للجميع بهذه الكرامة.

وفي السياق، يقترح المؤلّف إعادة قراءة فكرة البراء والولاء. فكلّ طائفة من الطوائف تقدّم البراء من الطوائف الأخرى والولاء لطائفتها؛ وهذا يُفسد الأخلاق والكرامة، لأنك حين تتبرّأ من الآخرين فأنت تتبرّأ من الكرامة أيضاً، وتعتبر أن لا كرامة لهم، وأن ليس هناك معيار ومرجعية إنسانية تُلزمك في التعامل معهم؛ فهم منتهَكون وتحلّ لك دماؤهم وأعراضهم، ويحلّ لك كل شيء مُصان لديهم، في حين أن الكرامة الإنسانية تحفظ الوجود الإنساني. فهي حصن، وهي وقاية وتحصين. والدين يعطي التحصين للإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض.

لقد اشتغل مبدأ الولاء والبراء في تراثنا الإسلامي بطريقةٍ ولّدت العنف وأفسدت الأخلاق وجعلتها محصورة بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد. من هنا يصبح ضمير الفرد ضميراً غير أخلاقي لأنه انتهك الكرامة. وعندما يُبنى الضمير الديني على الضمير الأخلاقي يكون هو ذاته الضمير الأخلاقي؛ الضمير الأخلاقي يتعامل مع الإنسان على أنه واحدٌ متساوٍ. الضمير الأخلاقي يكون ضميراً دينياً، والضمير الديني يكون أخلاقياً إذا بنيناه بهذه الطريقة. أما إذا كان الضمير الأخلاقي مشروطاً بالبراء والولاء، بالجماعة، بالطائفة، فإنه يكون ضميراً فاسداً لأنه يكون مقيّداً بشيء، بمصالح معيّنة، بجماعة معيّنة؛ والأخلاق والضمير لا يقبلان التقييد. التقييد يُفسد شروط الولاء والبراء ويُفسد الضمير الأخلاقي؛ وبالتالي لا يكون ضميرك الأخلاقي مساوياً، أو لا يكون ضميرك الديني مبنياً على الضمير الأخلاقي؛ إنما يكون ضميرك الديني مبنياً على تعصّبك وولائك وانحيازك إلى جماعتك وإهدارك لكرامة الآخرين.

ويخلص المؤلّف في هذا الجانب إلى أنه لا يمكن بناء حياة روحية وأخلاقية أصيلة في مجتمع تتفشّى فيه ثقافة يحضر فيها التكفير وإلزام المسلم بمقاطعة الغير؛ ولا يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلف في المعتقد، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالم، وعقلٌ ينهكه التشاؤم والاغتراب والارتياب من الآخر، أن يؤسّس لحياة روحية وأخلاقية حقيقية، تشفق على المعذّبين، وتتضامن مع الضحايا، بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وإثنيّاتهم، وتتصالح مع العقل والحق والخير والسلام والجمال في الحياة. 

إن الدين هو حياةٌ في أفق المعنى، تفرضه حاجة الكائن البشري الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية. والدين يعبّر عن هشاشة الكائن البشري، وقلقه الوجودي وألمه، وطبيعته بوصفها ملتقى الأضداد، وحاجة وجوده الفقير للاتصال بوجود الحقّ الغنيّ بذاته. وفي ضوء هذا التفسير يتحدّد ما ينشده الدين في حياة الفرد والجماعة؛ إنه تفسيرٌ يحضر فيه عالَم الغيب كما يصوّره القرآن الكريم مثلما يحضر عالَم الشهادة، ويكشف عن حاجة الإنسان العميقة للإيمان بالله للخلاص من الاغتراب الوجودي. 

يقول المؤلّف إنه اعتمد الفهم المعنوي للدين، والتفسير الرحماني الأخلاقي للقرآن الكريم، واستخلاص المضمون الإنساني الأخلاقي في الأحاديث والأخبار والتراث؛ وإنسان اليوم يفتقر إلى تديّن عقلاني وأخلاقي رحماني ينقذه، لأنه يعيش في عالَم يضمحلّ فيه معنى كلّ شيء في حياته؛ عالَمٌ تزداد فيه كآبته ويشتدّ اغترابه.

لكن قوّة الفكرة (الأفكار) لا تكفي وحدها لتطبيقها، ما لم تتبنَّها سلطة تفرض حضورها، أو تتجنّد لها جماعة تحشد كلّ طاقاتها من أجلها. فقد ظهرت أفكار منطقية ذكية في مختلف العصور، لكنها أخفقت في أن تطبع بصمتها في التاريخ، لافتقارها إلى جماعة تتبنّاها، وسلطة تحميها. 

وفي الخلاصة، فإن التجديد في الدين لا يحقّق وعوده من دون أن تتبنّاه المؤسسة الدينية، ويجد حاضنة مجتمعية يلوذ بها، أو تفرضه السلطة السياسية. وذلك لن يتحقق قريباً، كما يتوقع المؤلّف؛ وسيظل التجديد في الدين غريباً، ولن يجد من يرعاه، ما دام يتحدث لغة لا تشبه لغة الجماعات الدينية، ولا تدعمه سلطة سياسية، أو تحتضنه مرجعية دينية، ولا يتناغم ورؤية التراث للعالَم. 

حسن صعب
كاتب لبناني