عن مأزق الشباب في المنطقة العربية !

 الكتاب: مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 

تحرير: يورغ غِرِتل و رالف هِكسِل

ترجمة: ماريا الدويهي

الناشر: دار الساقي – بيروت - 2019 

بعد سنوات على "الثورات العربية"، تدهورت الأوضاع الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. اتّسعت حالات فقدان الأمان السياسي والاقتصادي والشخصي، بينما انخفضت مداخيل النفط وتهاوت عائدات السياحة. وعلى خلفية تصاعد الصراعات المسلّحة وتفكيك هيكليات الدولة، أُجبِر كثيرون على ترك ديارهم، الأمر الذي ولّد الملايين من المشرّدين داخلياً واللاجئين.

وغالباً ما يكون الشباب هم الأكثر تضرراً نتيجة الاضطرابات. فكيف يتعاملون مع تلك الشكوك المستمرة، وما الذي يدفعهم إلى السعي لتحقيق أحلامهم الخاصة برغم تلك الصعوبات.

في هذا الكتاب الذي يشكّل مرجعاً مهماً، قام فريق دولي من الباحثين بمسح شمل 9 آلاف شخص، تتراوح أعمارهم بين ست عشرة وثلاثين سنة، من: البحرين، ومصر، والأردن، ولبنان، والمغرب، وفلسطين، وسوريا، وتونس، واليمن. ونتج عن ذلك دراسة متعمقة لوضع الشباب هي الأكثر شمولية حتى اليوم. ونظراً إلى سرعة تطور الأحداث، كانت النتائج غير متوقعة في حالات كثيرة.

تتمحور الدراسة حول سؤالين رئيسيين: كيف يبدو الوضع بالنسبة إلى الشباب بعد ستّ سنوات على ما يُعرف بـ"الربيع العربي"؟ وكيف يتعامل الشباب مع حالات فقدان الأمن وغياب اليقين الجديدة التي يواجهونها في حياتهم اليومية؟

وقد استندت الدراسة إلى فكرة أن الشباب هم الفاعلون الرئيسيون في تحديد أطر مستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ إذ يشكّل أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة، 30% من السكان، وهي أعلى نسبة على الإطلاق. لذا تشكّل مواقفهم وقِيمهم ورؤاهم مؤشّرات واضحة على التطورات المستقبلية المحتملة في المجتمعات التي يعيشون فيها. وفي حين أن الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة لا تقدّم في الوقت الحاضر مساحة كافية من التفاؤل، ترسم نتائج الدراسة صورة لشباب ذوي مستوى تعليمي أفضل من أي وقت مضى، وعلى علاقة وثيقة بوطنهم، ويتميّزون بمقاربة إيجابية للحياة، ومستعدّين لتحمّل المسؤولية والالتزام اجتماعياً. غير أن هيكليات السلطة السائدة في غالبية بلدانهم تمنعهم من المساهمة بمواهبهم ومعارفهم ومسالكهم على نحوٍ فعّال في آلية تحديد أطر حياتهم ومجتمعاتهم.

وتستنتج الدراسة أن المنطقة لن تنعم بالاستقرار والتطوّر إلاّ إذا كان الشباب قادرين على المشاركة، من الناحيتين السياسية والاقتصادية، في تحديد أطر المستقبل؛ وذلك يتطلب النجاح في إنشاء نماذج مجتمعية أكثر شمولاً. 

تحت عنوان "الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، يتحدث يورغ غِرِتل في مقدّمة الكتاب عن نتائج دراسة تجريبية لدراسة مسحية مكثّفة وقابلة للمقارنة، والتي كشفت عن الشكوك المختلفة التي يواجهها الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فهم عُرضة لديناميتين بنيويّتين في حياتهم: مرحلة المراهقة وغياب الاستقرار، ومرحلة الظروف الاجتماعية غير المستقرة التي حدثت أخيراً، حيث تجلّى فقدان الأمن بالتعرض للعنف والنقص في الموارد. لذلك، وبينما يؤثّر فقدان الأمن في حياة هؤلاء الشباب اليومية، فسترتبط الشكوك بمستقبلهم. 

أما أبرز نقاط الدراسة ونتائجها، والتي أعدّتها مجموعة من الباحثين والباحثات والأساتذة في الجامعات الأوروبية، فهي:

غياب اليقين

تحت هذا العنوان، يستكشف يورغ غِرِتل معنى غياب اليقين من المنظارين المفاهيمي والتجريبي. يُشار بغياب اليقين إلى ما قد يحمله المستقبل؛ ويكون معظمه، إن لم يكن كلّه، مجهولاً بالنسبة إلينا. لا يمكن فعلياً توقّع المستقبل، إذ إننا نعرف فقط، ونسبياً، ما ستؤول إليه الأمور. ومع ذلك، يحاول الأفراد والمجتمعات باستمرار التحوّط من غياب اليقين، وتوجيه الحياة اليومية نحو المستقبل في محاولة للتخطيط له. 

وفي حين يتعلق غياب اليقين بالمستقبل، يرتبط فقدان الأمن بالحاضر وبالقدرة على التحرك. تعتمد التكتيكات والاستراتيجيات المرتبطة بهاتين المسألتين، إلى حد كبير، على إمكانية الحصول على الموارد. لذا إن الشباب الذين يفتقرون إلى الموارد الكافية هم الأكثر عرضة لفقدان الأمن. من هنا يركّز التحليل أساساً على مسألة كيفية إنتاج الأمن، وتحديد الأشخاص الذين تساعدهم الاستراتيجيات التي تعالج حالات غياب اليقين بصورة فعّالة.

القِيم

تحت هذا العنوان، يستقصي يورغ غِرِتل ودافيد كروير قِيم الشباب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. يتم تحديد القِيم على أنها أنماط توجيهية ونقاط مرجعية للأهداف الفردية والجماعية. ويكشف المؤلّفان وجود أربع مجموعات من القِيم المهمة بالنسبة إلى شباب اليوم في المنطقة: حسّ الانتماء الاجتماعي، السعي نحو النجاح، البحث عن الحرية، والرغبة في الحفاظ على الآداب والحشمة؛ فيما الإيمان غير المشروط بالله، الذي يشكّل مسألة شخصية جداً، يزوّد كثيرين بالثقة حتى في أوقات الأزمات.

الدّين

تحت هذا العنوان، يدرس رشيد أوعيسى مسألة ارتفاع نسبة التديّن في أوساط الشباب، الذي تمّ رصده لسنوات، وهل أنها تعكس تصاعداً أو عودة إلى الدين، أو هي تمثّل استراتيجيات فردية تهدف إلى تكوين الفرد هويّته الشخصية وسط بيئة متوترة ناتجة عن ضغوطات العولمة والتوق إلى الثقافة المحلية. ويستنتج أوعيسى تداعي نسبة التديّن السياسي في المنطقة، وارتفاع التديّن الاجتماعي؛ ويقود هذا إلى سؤال: هل العالم العربي يشهد بداية عصر علماني جديد؟

الجندر

تعالج إينس براونه مسألة أدوار الجنسين المتغيرة في أوساط الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتقول إن غياب المساواة في المجتمعات العربية مؤطّر على أساس الخصوصية الجندرية في المقام الأول؛ وتلك مقاربة لا تأخذ بالاعتبار العوامل الحاسمة الأخرى، بل تعمد في أحيان كثيرة على طمسها. بالتركيز على مواضيع الزواج، والتعليم، والتطلعات المستقبلية ترسم الباحثة صورة تكشف عن العلاقات المتبادلة بين مختلف مجالات الحياة، والتحوّلات، والتداعي المتزايد لأنماط غياب المساواة المتداخلة.

الأسرة

يحلّل كريستوف ه‍. شفارتس دور الأسرة، ويُظهر أنها لا تزال تلعب دوراً أساسياً بالنسبة إلى الشباب في البلدان العربية. فالأسرة وشبكات الأقارب تشكّل، خصوصاً في حالة العوز المادي، أهم العلاقات. يحرص الشباب أنفسهم على المحافظة على علاقات عائلية متينة، ويولون أهمية خاصة أن يكون لهم أطفال، ولن يغيّروا الكثير في تربيتهم. وفي الوقت نفسه، يسعون أيضاً إلى تحقيق أهداف مستقلة، كالرغبة مثلاً في اختيار شريكهم الخاص في الحياة الزوجية.

الاقتصاد 

يستقصي يورغ غِرِتل كيفية تقييم الشباب وضعهم الاقتصادي، في مواجهة ثلاثة عقود من السياسات الليبرالية الجديدة، بما في ذلك الخصخصة الضخمة وتفكيك دولة الرعاية. مع المحافظة على احترامهم أهلهم، يتأثّر جيل الشباب بثلاث ديناميات: الافتقار إلى الضمان الوظيفي، والاستقطاب الاقتصادي المتنامي، وإخفاق وعد التعليم.

الطبقة المتوسطة

يكشف كلّ من يورغ غِرِتل ورشيد أوعيسى أن الطبقة المتوسطة العربية التي شكّلت عاملاً مهماً للاستقرار الاجتماعي في العقود الماضية هي قيد التفكّك. لا يزال الشباب قادرين على تحديد الطبقة التي تنتمي إليها عائلتهم، بالاستناد إلى حد كبير على المستوى التعليمي ومهنة أهلهم. لكن المجتمع قد تعرّض للاستقطاب عبر سلسلة من الاضطرابات التي حرّكتها خلال العقد المنصرم، التحوّلات في هيكليات التوظيف، ما أدّى إلى تداعٍ كبير في الأمن الاقتصادي، والذي تفاقم نتيجة الحروب، والنزاعات المسلّحة، والثورات، والاضطرابات الداخلية، والتقويض المتزايد للأمن البشري.

الجوع والعنف

يؤكد يورغ غِرِتل وتمارا فيرتكي أنه في سياق حالة غياب اليقين المتنامية، يتجلّى نمطان حاسمان من الأمن: تأمين الاحتياجات الأساسية، وغياب العنف المباشر والهيكلي. يشمل الأخير سوء التغذية والعنف. تكشف النتائج عن الخصائص المتفاوتة لفقدان الأمن الغذائي والعنف الذي يؤثّر في بعض الشباب. مثلاً في مصر وغيرها من البلدان التي تعتمد على الاستيراد، غالباً ما يفتقر الناس إلى القدرة الشرائية للحصول على الغذاء المتوفّر. من جهة أخرى، في فلسطين، تغذّي سياسات الاحتلال الإسرائيلي الفقر وفقدان الأمن الغذائي، من بين أمور أخرى.

الهجرة

دَرَسَ يورغ غِرِتل وأن-كريستين فاغنر حراك الشباب في العالم العربي، هذا الجانب من المجتمع الذي غالباً ما يُساء تقديره. تكشف النتائج التجريبية أن مجموعة صغيرة فقط، أي أقل من 10٪ من الشباب، مُصمّمة على الهجرة. فضلاً على ذلك، عادة ما تكون هجرة اليد العاملة في أوساط هؤلاء إلى الدول العربية الأخرى، بينما تبقى الرغبة في العمل خارجاً، المرتبطة بالعلاقات التاريخية والاستعمارية واللغوية مع أوروبا، محدودة.

الاتصال والإعلام

تستكشف كارولا ريشتر الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الجديدة في الحياة اليومية للشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تشير صياغة مصطلحات جديدة، كـ"ثورة فايسبوك" و"المعارضة على تويتر" وتأثير بعض القنوات الفضائية، إلى الأهمية السياسية الضخمة لوسائل الإعلام الجديدة.

وتستنتج ريشتر أن التواصل المستند إلى وسائل الإعلام (التقليدية أو الرقمية) لدى الشباب يعمل في اتجاهين، كآلية تحفيز وتكيّف في التعامل مع حالات غياب اليقين في الحياة اليومية.

السياسة

يتناول مَتياس ألبِرت وسونيا حجازي أهمية السياسة بالنسبة إلى الشباب، بتحديد مدى اقترابهم من السياسة أو ابتعادهم عنها بعد مرور ست سنوات على أحداث "الربيع العربي". وقد توصّلا إلى ثلاث نتائج في غاية الأهمية: أولاً، تُظهر انتفاضات 2011 إمكانية تسييس الشباب في الدول العربية. ثانياً، تنحّى أغلب الشباب عن السياسة (الحزبية) بعد التجارب الأخيرة التي شهدتها المنطقة. ثالثاً، تؤيّد نسبة كبيرة من الشباب، في تناقض ظاهري، وجوداً أكبر للدولة.

ويستنتج المؤلّفان أن الشباب يجسّدون إمكانات كبيرة لإجراء تغييرات بنّاءة للنظام السياسي في المستقبل.

التعبئة

تُسلّط نادين سيكا وإيزابيل فِرِنِفلس الضوء على التعبئة السياسية في أوساط الشباب، وتستنتجان أن أحداث عامي 2010 و2011 تمثّل ذروة تعبئتهم السياسية الموجّهة نحو تغيير العلاقات بين الدولة والمجتمع. وبرغم خيبة أمل كثيرين من مسارات السياسة الرسمية في السنوات الأخيرة، لا يزال الشباب على استعداد للمشاركة السياسية، مع اهتمامهم بالدفاع عن أهداف اجتماعية واقتصادية أكثر من التغيير السياسي.

المشاركة المدنية

تحلّل فريدريكا ستوليس المشاركة المدنية للشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. استناداً إلى النتائج التجريبية، تؤكد أنهم عموماً يُبدون استعداداً للعمل من أجل مصلحة الآخرين وخدمة أهداف اجتماعية وقضايا محدّدة؛ لكنهم نادراً ما ينخرطون في منظمات المجتمع المدني الرسمية.

ووفق المؤلّفة، تختلف دوافع الشباب اليوم عن الأجيال السابقة، حيث كانت المشاركة المدنية تندرج في سياق حركات التحرّر المعادية للاستعمار، أو فيما يتعلق بالنضال من أجل قيام دولة مستقلة. ومع التغيير في قِيم وأهداف الشباب، وإحكام الدول الاستبدادية في المنطقة سيطرتها بقوّة واستبعادها مؤسسات المجتمع المدني، من الواضح أن الأخيرة فقدت اليوم جاذبيتها.

مقارنة مع دراسة "شيل" الألمانية للشباب

قارَن مَتياس ألبِرت ويورغ غِرِتل نتائج الدراسة الحالية مع نتائج دراسة "شيل" الألمانية للشباب، التي تُتابَع منذ مدة طويلة. والغرض من المقارنة هو تحديد النتائج التجريبية للدراسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن سياق مجتمعي أوسع، ووضع وسائل فكرية تسمح بتقدير مستوى التفسير التحليلي.

من حيث القواسم المشتركة بين شباب المنطقة والشباب الألماني، تشكّل مسألة الأمن أولوية في مجالات الحياة اليومية كافة. ينطبق هذا مثلاً على إمكانية دخول سوق العمل والأمن الشخصي عموماً. ومع ذلك، يتّضح أن الشباب العرب غالباً ما يعانون عوائق بُنيوية، وغالباً ما يصبحون معرّضين أكثر للتبعية، مثل إمكانية النجاح في عولمة أسواق العمل.

في الختام، يشير رالف هِكسِل، إلى أن الدراسة في غالبيتها تجريبية بطبيعتها. وهي، قبل كل شيء، تمكّن الشباب في العالم العربي من "التكلّم" وإيصال أصواتهم إلى الرأي العام. كما أنها ستُضفي قيمة أكبر كأداة عمل في حال تمّ تكرارها في السنوات اللاحقة.

 حسن صعب - كاتب لبناني