كنوز فريدة.. من ينهب آثار الجزيرة السورية؟

 "الآثار الموجودة في الجزيرة السورية أغنى من بترولها وأكثر مردوداً، وهي أكثر منطقة واعدة في العالم، حيث يوجد تحتَ كل تلّة من تلال الحسكة التي يتجاوز عددها الألف، قصة تتحدث عن إرث حضاري وأثري زاخر باللُقى النادرة"، بهذه الكلمات عبّر عالم الآثار الإيطالي باولو ايميليو بيكوريلا عن أهمية الجزيرة السورية، التي تضم محافظات دير الزور والرقة والحسكة، نظراً لما تملكه من كنوز فريدة على مستوى العالم.

منذ منتصف القرن الــ 19 وحتى العام 2010، زارت عشرات البعثات الأثرية الأجنبية محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، سعياً منها لسبر أغوار هذه المنطقة البِكر، واكتشاف كنوزها المختبئة تحت التلال الأثرية التي يصل عددها إلى 1250 تلاً، تحكي قصة استقرار الإنسان الأول الذي استوطن هذه المنطقة منذ الألف الثامن قبل الميلاد، ليتطور بعدها الاستقرار السكاني عبر إنشاء ممالك وتجمعات بشرية ومدن كبيرة تعود لحضارات موغلة في القِدَم، كالأكادية والآشورية والبابلية والحثية والآرامية، لتكون تلك المنطقة واحدة من أغنى المناطق بالشواهد الأثرية.

بعد العام 2011 عندما بدأت الحرب السورية، خرجت منطقة الجزيرة عن سيطرة الدولة، وتناوبت فصائل مسلحة عديدة السيطرة على المنطقة منها "الجيش الحر" و"جبهة النصرة" و"داعش" و"قوات سوريا الديموقراطية" و"الجيش الوطني"، وكان العامل المشترك بينها، استهداف التلال الأثرية ونهب محتوياتها وتهريبها خارج البلاد، من دون أدنى مراعاة للأهمية التاريخية التي تمثلها هذه الآثار على المستوى الوطني والعالمي أيضاً.

ولم تكن الكنوز الأثرية التي تحتضنها تلال الجزيرة السورية هدفاً للفصائل المسلحة فقط، وإنما للدول الداعمة لها أيضاً، حيث تؤكد المعلومات أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أرسلوا فرقاً هندسية إلى الجزيرة السورية بهدف التنقيب عن الآثار الموجودة فيها، كما أجروا مسوحات واسعة في التلال الأثرية، ونقلوا أجزاء كبيرة من محتوياتها إلى خارج سوريا.

مديرية الآثار في محافظة الحسكة عملت طيلة السنوات الماضية على توثيق حالات الاعتداء والنهب التي طالت المواقع الأثرية، رغم أن قدرتها على التحرك والرصد العلمي الدقيق لعمليات الحفر العشوائي غاية في الصعوبة، نظراً لسيطرة الفصائل المسلحة المدعومة من القوات الأميركية والتركية على المنطقة.

مدير الآثار في الحسكة، خالد أحمو، بيّن أن معظم المواقع الأثرية في المحافظة تم التعدي عليها من قبل الفصائل المسلحة، وترافق ذلك مع صعوبة وصول العاملين في الجهات الرسمية إلى المواقع المستهدفة، لا سيما التلال التي تقع جنوب المحافظة كتل "عجاجة" وتل "طابان" وتل "الشدادي"، حيث تم تجريف أجزاء كبيرة منها وحفر أنفاق بداخلها، إضافة إلى المواقع الأثرية التي تقع شمال المحافظة كتل "حلف" وتل "فخيرية" وغيرها من المواقع.

"داعش.. من الذهب إلى الآثار"

لم يكن الهدف الأساسي لتنظيم "داعش" مع بداية سيطرته على مناطق الجزيرة السورية التنقيب في المواقع الأثرية، بل كان يسعى للبحث عن الكنوز الذهبية الموجودة في المنطقة. لذلك نفّذ عمليات بحث واسعة من خلال أدوات حديثة في أكثر من منطقة شمال شرق سوريا، وفق ما أكده الأهالي لــ "الميادين الثقافية"، وهذا ما حدث في منطقة "تل الذهب" بريف مدينة الشدادي جنوب الحسكة، ومنطقة "مغلوجة" بمحيط جبل عبد العزيز، حيث تمكن التنظيم من استخراج كميات كبيرة من الذهب شكّلت مصدراً لتمويل نشاط التنظيم في بداياته.

بعد ذلك تحوّلت أنظار "داعش" نحو التلال الأثرية، لكن عن طريق عمليات حفر عشوائي باستخدام الجرافات الثقيلة، وهو ما أدى في غالب الأحيان إلى تدمير تلك التلال الهامّة، مثل "تل عجاجة" و"تلال الهول" و"تل الشدادي".

وتؤكد مصادر محلية أن التنظيم الإرهابي وعند عثوره على بعض التماثيل الأثرية، كان يقوم بتحطيم بعضها أمام الأهالي بدعوى أنها أصنام يجب التخلّص منها، بينما كان يقوم ببيع القسم الآخر لتجار آثار أجانب مقابل الحصول على مبالغ مالية ضخمة، حيث شكّلت هذه التجارة مصدر تمويل أساسي له داخل سوريا.

ولعلّ أبرز المواقع الأثرية التي دمّرها "داعش"، هو "تل عجاجة" حيث دُمِّر أكثر من 40% منه، وتعرّض للهدم والجرف على يد مُسلحي التنظيم، الذين عمدوا إلى حفر خنادق داخل الموقع الأثري.

ويقع "تل عجاجة" على بعد 35 كم من مركز مُحافظة الحسكة، وهو أحد أهم التلال في المنطقة من حيث القيمة الأثرية والتاريخية، فعليه قامت عاصمة الدولة الآشورية "شاديكاني"، كما زاره عدد كبير من علماء الآثار لإجراء مسوحات للموقع، ويعود تاريخ هذا التل إلى نحو 4 آلاف عام قبل الميلاد.

وكذلك "تل مشنقة" في منطقة الخابور الأوسط، حيث أثبتت عمليات التنقيب قبل الحرب في سوريا أنه التل الوحيد الذي يشهد استمرارية للاستيطان البشري منذ الألف الخامس قبل الميلاد (عصر العبيد) وحتى الألف الثالث قبل الميلاد (عصر البرونز)، فضلاً عن فترات استيطانية أحدث تعود للعصر الروماني.

 بعد "داعش".. "قسد" تكمل المهمة

مع سيطرة "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) مدعومة بقوات "التحالف الدولي" على أجزاء من الجزيرة السورية، عمدت إلى استكمال ما بدأه "داعش" عبر عمليات تنقيب عشوائي في التلال الأثرية، وفي الغالب كانت تتم بالتنسيق بين "قسد" وقوات الاحتلال الأميركي. أما الأماكن ذات القيمة العالية فكانت القوات الأميركية أو الفرنسية تنقّب فيها بشكلٍ سري ومستقل بعيداً من "قسد".

ولعلّ أبرز عمليات التنقيب التي قامت بها القوات الأميركية كانت ضمن "تل أبو بكر" الأثري عام 2016، والذي يقع شرق مدينة الحسكة، حيث كشفت مصادر محلية لــ "الميادين الثقافية" تفاصيل تلك العملية.

وتقول المصادر إن القوات الأميركية نفذت عملية إنزال جوي في المنطقة وفرضت طوقاً أمنياً، قبل أن تباشر قوات هندسية الحفر ضمن نطاق ضيّق وبعمق يقارب 3 أمتار، واستخرجت تابوتاً قديماً تم نقله عبر مروحية عسكرية إلى جهة مجهولة، ومن ثم أخلت المكان من دون معرفة ماهية التابوت.

ويطل "تل أبو بكر" على نهر الخابور؛ ويعتبر من التلال غير المكتشفة، ولم تجرِ فيه أيّ عمليات حفر أو تنقيب من قبل البعثات الأثرية السورية أو الأجنبية قبل الأزمة السورية، لذلك أثارت عمليات التنقيب الأميركية تساؤلات عديدة.

وعلى أحد الأودية النهرية في مثلث الخابور، يقع "تل شاغر بازار" على بعد نحو 50 كم إلى الجنوب من مدينة الحسكة، والذي تم التعرف فيه على آثار تعود إلى الألفين الرابع والخامس قبل الميلاد، كما عُثر فيه على مجموعة من الرُقم المسمارية تعود إلى الفترة البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وخلال عام 2019 بدأت وحدات فرنسية عمليات التنقيب داخل التل بشكلٍ سري، وسرقت كميات من الآثار الموجودة ضمنه، وهو اليوم تحت سيطرة "قسد" التي لم تكن بعيدة عن التوجه الأميركي والفرنسي في استهداف التلال الأثرية.

فقد أسفرت عمليات التنقيب العشوائي التي نفذتها "قسد" إلى تدمير عشرات التلال بشكلٍ شبه كامل، ومن بينها "تل بيدر" على ضفاف وادي عويج، والذي يعود تاريخه إلى عام 2452 قبل الميلاد، حيث كشفت المسوحات الأثرية قبل الحرب، أن التل يضم مدينة دائرية كبيرة القطر تحيط بها تحصينات دفاعية فيها 7 أبواب، لكن التل تعرّض للتخريب والنهب بين عامي 2013 و2016 من قبل "قسد"، الذين نقلوا أجزاءً عديدة من التل إلى إقليم كردستان العراق.

القوات التركية لم تكن بعيدة عن المهمة

منذ دخول القوات التركية والفصائل الموالية لها إلى شمال شرق سوريا، وسيطرتها على أجزاء من ريف الحسكة، ظهرت الدوافع نفسها التي كانت لدى القوات الأميركية، ولعل تل "حلف" الأثري خير مثال على تدمير تركيا للآثار السورية وسرقتها، حيث جرفت الآليات التركية أجزاء واسعة من التل عام 2019، ونهبت لُقى أثرية منه ونقلتها إلى الداخل التركي، وفق ما أكدته مصادر محلية لــ "الميادين الثقافية".

ويعود تل "حلف" إلى القرن السادس قبل الميلاد، وزارته بعثات عربية وأجنبية عديدة قبل الحرب في سوريا، وأكدت الدراسات والمسوحات الأثرية في التل وجود العديد من القصور والمنازل والمنحوتات الحجرية والجداريات التي تعود إلى الدولة الآشورية، مع وجود تماثيل للآلهة عشتار وللثيران المجنحة، إضافة إلى المدافن الملكية.

وما جرى خلال السنوات الأخيرة في الجزيرة السورية، عرّض عشرات المواقع الأثرية النادرة للخطر، بفعل ممارسات وتعديات الفصائل المسلحة والدول الداعمة لها من عمليات تنقيب عشوائي وتجريف لتلك التلال ونهب محتوياتها.

وتشير المعلومات إلى تضرر أكثر من 300 تل أثري من أصل 1250 في عموم الجزيرة السورية، كما تم نهب محتويات عشرات التلال ونقلها خارج سوريا، بينما تم تحويل أكثر من 50 تل أثري إلى تحصينات عسكرية، ما يتطلب جهوداً حثيثة لاستعادة الآثار السورية والحفاظ على ما تبقى منها، وهذا الأمر يحتاج إلى تحرّك دولي من المنظمات والمؤسسات الثقافية والتراثية العالمية بأسرع وقتٍ ممكن.

* ديب سرحان - صحافي سوري