"بُنّ اليمن يا درر"..

البُنّ اليمني يحتلّ المرتبة الأولى عالمياً، وله النصيب الأكبر من الشهرة والسمعة الطيّبة، التي تعود إلى جودته العالية ومذاقة الفريد، مقارنة بباقي الأنواع العالمية الأخرى التي تحاول منافسته.

ارتبط البنّ بهوية المجتمع اليمني وثقافته، ولا يعتبر محصولاً زراعياً ومنتجاً زراعياً يمنياً فحسب، بل يُعدّ منتجاً زراعياً استراتيجياً مرتبطاً بتاريخ اليمن واقتصاده، كما أنّ اليمنيين هم أول من استخدم البن كمشروب اجتماعي في أفراحهم وأحزانهم ومناسباتهم كافّة.

اليمن الموطن الأول للقهوة
لا يزال البعض يؤمن بأنّ الموطن الأول للقهوة هو إثيوبيا، بينما الحقيقة هي أن الموطن الأول هو اليمن، كما يقول القبطان هينز Haines في كتاب بريطاني حكومي اسمه Precis of Papers Regarding Aden المنشور عام 1876، إن بريطانيا نقلت زراعة البن من اليمن إلى بعض ممالك القرن الأفريقي لمنافسة السلطنة العثمانيّة والمضاربة على اليمن في القرن الـ 19.

وتعود تسميته "Mocka Coffee" إلى صفقة للبن اشتراها الهولنديون من ميناء المخا في العام 1628، ثم استمروا في إبرام صفقات شراء البن من ميناء المخا وبيعه في هولندا تحت مسمى "موكا"، نسبة إلى ميناء المخا اليمني الذي يقع في أطراف محافظة تعز اليمنية.

يزرع البن في محافظات عديدة، منها محافظة صنعاء، وعمران، والحديدة ، وذمار، وإب، والمحويت، وريمة، وتعز، وصعدة، ويافع، وحجة، ولحج، وأبين.

القهوة من سلعة إلى طقوس
انتشر مشروب القهوة بداية من خلال الطقوس الاجتماعية، حيث كانت تقدم في فترات الراحة واللقاءات في مجالس الذكر، وكانت تقدم إلى القوافل التجارية التي كانت تستريح ليلاً في المنازل التي تحطّ فيها، وتقدّم أيضاً إلى السكان على طول خطوط التجارة وصولاً إلى مكة المكرمة، حيث كان اليمنيون يُعدّون القهوة ويمنحونها لمن يجاورهم السكن، كما شرح أستاذ الوراثة وتربية النباتات في كلية الزراعة في جامعة صنعاء أمين الحكيمي.

والقهوة تمثل رمزاً اجتماعياً، حيث ترسّخت في قيم المجتمع اليمني وعاداته اليومية ومناسباته وأعياده، كما أنها تقدم إلى الضيوف والعاملين في المزارع، والمصانع. ويقول المواطن عادل يحيى رسام الخولاني، للميادين نت، إنّ القهوة تقدم بشكل حبوب للضيوف والأصدقاء كهدية فاخرة، وكمساعدات للضعفاء والمحتاجين، وأيضاً في تسهم دعم الأنشطة التنموية والتعليمية.

أصناف مختلفة
لكل نوع مذاق مميّز ورائحة معينة، ومن هذه الأنواع: البن الإسماعيلي، الذي يعتبر قهوة الأمراء والملوك، ويتميّز بطعم الفواكه المجففة، كالتمر الهندي، والفراولة، والمشمش، والموز، وأيضاً نكهات الكاكاو الداكنة، وتتفاوت النكهة بحسب المنطقة التي يزرع فيها، ويُزرع في مديرية مناخة – عزلة بني إسماعيل – محافظة صنعاء.

والبن الخولاني الذي يعتبره المستهلكون في العالم  أفضل بن يمني على الإطلاق، ويحتل أعلى نسبة مبيعات في اليمن، وفي الدول المستهلكة. يُزرع في مديريات حيدان، وساقين، وغمر، ومنبه، ورازح، في محافظة صعدة. وأيضاً البن الآنسي، والبن الحرازي، والبن اليافعي، والبن المطري، والبن البرعي، والبن الحمادي، والبن الحواري.

ويتم تصنيف البن إلى أنواع بناءً على شكله، إذ يقسّم إلى التفاحي والدوائري والبرعي والعديني.

من البذرة إلى الفنجان
يعتقد المواطن العربي أنّ القهوة التي انتهى بها المطاف بين يديه سهلة الزراعة، لكنّ الواقع غير ذلك، كما يقول المزارع ناجي سنان للميادين نت. ويوضح أن زراعة البن تمر بمراحل عديدة، أولاها أخذ شتلة من المشتل في عمر سبعة أشهر، ثم تُزرع في الأرض، ويستمر الاعتناء بها حرثاً وسقاية، وتُعطى السماد العضوي حتى عمر سنتين ونصف سنة حتى تزهر، وبعد سبعة أشهر يحين وقت القطاف. 

وفي المرحلة الثانية، يقول سنان: "يتم تجفيف الثمرة في سرائر مخصّصة تحت أشعة الشمس المباشرة، ثم تخزّن في أماكن مخصّصة، حيث يخلو المكان من الروائح الأخرى أو العطور، حتى لا يفسد المحصول. وفي المرحلة الثالثة يبدأ التسويق".

ونُشرت دراسة تفصيلية للدكتور عبده بكري فقيره عن قسم المحاصيل والمراعي - كلية الزراعة، جامعة صنعاء، في نشرتها "منظمة المجتمع العلمي العربي"، حيث تقول: "إن البن يُزرع في الجمهورية اليمنية في مناطق متباعدة بعضها عن بعض، وفي مواقع معزولة في الجبال والهضاب والوديان، ما يعطي لكل منطقة خصوصية معينة في التعامل مع زراعة البن.

حيث يزرع البن في مناطق المرتفعات الغربية والوسطى والجنوبية، بين ارتفاعات مختلفة، تراوح ما بين 700 و2400 م فوق سطح البحر، ضمن نطاق مطري يصل من 400 إلى 700 مليمتر، وفي بعض المرتفعات حتى 1000 مليمتر".

وتشير الدراسة إلى أنّ محصول البن تجري زراعته تحت ثلاثة أنظمة مختلفة من ناحية استخدام مصادر المياه، ويمكن تمييزها على النحو التالي:

- محصول بن يزرع في أراضي الوديان، وهنا يعتمد محصول البن في الري على مياه السيول إضافة إلى المياه السطحية والأمطار.

- محصول بن يزرع في السفوح المتوسطة الارتفاع، ويعتمد المحصول في زراعته على مياه الأمطار مضافاً إليها الري التكميلي من الآبار الجوفية ومياه العيون الصغيرة والسدود والخزانات.

- محصول بن يزرع في المدرجات المطرية، والتي تعتمد كلياً على الري بالأمطار، إضافة إلى الخزانات التي أنشئت لتجميع مياه الأمطار.

إحياء البن من جديد
سعى العديد من الجمعيات المدنية، بمساندة معظم أفراد المجتمع اليمني، إلى الحفاظ على مكانة البن اليمني، من خلال إنشاء اتحاد منتجي البن الذي يضم في عضويته أكثر من 30 جمعية تعاونية لتوحيد الجهود، توّجت بزراعة أكثر من مليون شجرة بن خلال الأعوام الخمسة الماضية. ويقدّر عدد العاملين في زراعة البن بمليون ونصف مليون يمني، والذي يعدّ مصدر دخلهم الوحيد، كما تحدث محمد القاسمي، مسؤول وحدة البن في اللجنة الزراعية العليا.

من أهم المبادرات المجتمعية، توزيع شتلات البن على طلاب المراكز الصيفية، لخلق وعي لدى الأجيال بأهمية هذا الكنز والحفاظ على أصالته التاريخية، وتعزيز ارتباط الأجيال بشجرة البن والتوسع والاستمرار في زراعتها.

ويضيف القاسمي في حديثه أنه تم إعداد استراتيجية لتنمية محصول البن، أقرّها مجلس الوزراء في نيسان/ أبريل 2020، وتتضمن هذه الاستراتيجية عدداً من البرامج التنفيذية لتطوير هذا المحصول، ودعم المزارعين لزيادة الإنتاجية من 18 ألف طن إلى 50 ألف طن مع حلول عام 2025.

وأما الخطر الذي يهدّد البن اليمني، وفق القاسمي، فهو دخول البن الأجنبي وتهريبه إلى الأسواق المحلية، وقد تمّ إصدار قرار بحظر تداول البن الأجنبي وقشوره وغلاته في الأراضي اليمنية، لحماية هذه الثروة المهمة.

تجارة رابحة
المزارع ناجي سنان (60 عاماً)، من محافظة حجة، بني العوام عزلة جبل نمر، رفض زراعه القات، وبدأ بزراعة البُن والخضار والفواكه، وباعها بثمن منخفض، لكي يتم شراء المنتج المحلي بدلاً من الخارجي. جعل محصول البن أكثر كفاءة، وبطريقة الجني الصحيحة، وذلك بعد أن تنضج ثمرة البن وتصبح حمراء، وبطريقة القطف (الجني) السليمة والتقليم (القص) والتجفيف بالطريقة القديمة والتخزين الصحيح، وتوجه إلى غرس شتلات البن حتى وصل العدد إلى 800 ألف شتلة، وقام بالترويج والإعلان لبيع الشتلات. ولحرصه الشديد على رفع صيت البُن اليمني، خفّض سعر شتلة البُن إلى 40 ريال يمني، أي ما يعادل 0.15 دولار، وعرض التوصيل إلى محافظات أخرى كصنعاء وعمران وحجة بالمجان، لتشجيع المزارعين على اقتلاع شجرة القات وزراعة البن.

البن والقصيدة
اشتهر العديد من  القصائد عن البن، أشهرها قصيدة "الحب والبن"، للمؤرخ اليمني مطهر الأرياني التي ربط بين زفّ البشرى لحارس البن، باقتراب موسم الحصاد، واقتراب موعد زفافه بمن يحب، وقال فيها:

يا حارس البن بشرى موسم البن داني

ما للعصافير سكرى بين خضر الجنان

هل ذاقت الكأس الأولى من رحيق المجاني

واسترسلت تطرب الكون بأحلى الأغاني

قال أبشروا بالخبر

بشاير أول ثمر

ظهر بلون الخضر

على خدود الغواني

طاب الجنى يا حقول البن بأحلى المغاني

يا سندس أخضر مطرز بالعقيق اليماني

بن اليمن يا درر

يا كنز فوق الشجر

من يزرعك ما افتقر

ولا أصيب بالهوان