العقد والتيجان والأزياء الشعبية: المرأة اليمنية تعكس موروثاً جمالياً حياً

ليست مصادفة أن يحظى الزي الشعبي للمرأة اليمنية بميّزاتٍ يتفرّد بها عن سواه، فأرضُ الجنتين وسدّ مأرب العظيم وكثير من الشواهد التاريخية_ التي تعج بها المجلدات والكتب _ تؤكّد بما لا يدعُ مجالاً للشك أنّ هذه الأرض تفرّدتْ وتميّزتْ بخصائص شتّى يندر أنْ تجد لها مثيل!

يرتبط الموروث الشعبي بمفاهيم كالهوية والأصالة والثقافة المجتمعية، بل يعبّر بشكلٍ ملموسٍ، حيّ وجماليّ عن خصوصية المجتمع الثقافية وثرائِهِ التاريخي.

للزيّ الشعبيّ جماليّة متفردة هي ضمن روزنامةٍ من الفنون يعكس بعضُها سحرَ وجماليةَ بعض، تندمجُ مؤتلفةً لتشكّل صورة بديعة عن ماضٍ نُسج بحرفيّة عالية جديرة بأن تشكّل هوية مجتمع، وتثبّت جذوره بأوتادِ الأصالة والعراقة، كلُّ جزئيةٍ فيه تحملُ مدلولاتٍ مادية ومعنوية!  

ثراءٌ جماليّ متنوّع 

تتميّز الأزياء التراثية الخاصة بالمرأة اليمنية بتنوّعها وتعدُّدها، فيما تمتلك المحافظة الواحدة عدداً من الأزياء المتنوّعة ترتديها النساءُ داخل البيت وخارجه، سواءً ما يُغطى به الجسد أو تلك التي يُغطّى بها الرأس، وللعزباءِ على سبيل المثال زيّ يختلف عن زيّ المرأة المتزوجة، والطفلة عن الشابّة. 

حتى المناسباتُ على اختلافها لها ألبسة وأزياء متعددة، فالعروسُ مثلاً تتعدّدُ أزياؤها بحسب عدد أيام مراسيم زفافها، فهناكَ القميص ذو الكمّ الواسع، وفستان الزفاف، والدِّرْع، والرُّدّة، والزَّبون.. وهي تختلف طبقاً للخصائص الجغرافية للمحافظة من حيث نوعية القماش أو طريقة التصميم أو التطريز، فأزياء المناطق الحارّة تختلف عن تلك الخاصة بالمناطق الباردة، أمّا المناطق الصحراوية فيغلب على أزيائها خلوُّها من التطريز على قطع القماش، وتلك الوعرة والقاسية يخفّ في أزيائها التطريز بحيث يمكن أن يقتصر على الواجهة الأمامية للزي دون الخلف، بعكسِ بعض المحافظات التي تُطرّز أزياءها بإسراف، وفق ما تذكر المصادر التاريخية.

تقول أنيسة النوبي، المديرة التنفيذية لمؤسسة بيتنا للتراث والتنمية: "من أبرز الأقمشة التي كانت تُصنع منها الملابس القطنيّات، ذلك أنّها تتقبّل مادة النيلة التي كانت تُصبَغ بها، نظراً إلى لونها المميز وخصائصها العلاجية، فهي تعدُّ علاجاً لكثيرٍ من الأمراض الجلدية التي كانت تنتشرُ كثيراً؛ نظراً إلى ظروف الطقس والمناخ، وبعد أن تُصبغ أقمشةُ القُطن بها توضع على الجلدِ مباشرةً للاستفادة منها، وبعضُ الأزياء كانت تُصنع من الكتّان والمخمل أو ما يُسمّى أيضًا الدَّمَس".

وتضيف: "اليمن كان أول حضارةٍ تحوز الصدارة في إنتاج الجينز من الجلود، منذ قديم الزمان، من عهد سد مأرب والجنّتين، كما كانت تستخدم جلود الأغنام لصنع الحقائب، كانت الدباغةُ دقيقة جداً".

خيط وإبرة.. وأصباغ طبيعية متنوعة

حياكةُ الملابسِ كانت يدوية، تظهرُ في تفاصيلها مهارةٌ فائقة وإتقانٌ وصبرٌ ملحوظان، تُحاكُ بعضُ الملابس بالسيم الذهبي أو ما يُسمى: لون الذهب، أو السيم المطليّ بمادة الفضة، وتُطرّز الأقمشةُ بنقوشٍ دقيقة، متداخلة، ومتناسقة، مطعّمة بألوانٍ تُبرزُ جمالية الشكل المرسوم بحرفيّةٍ عالية، إذْ يُخيّل إلى الرائي أنّها طُرِّزتْ وحيكتْ بواسطةِ آلاتٍ مخصصة لذلك، فيما الشِّبْرُ كان الوسيلة الوحيدة آنذاك لقياس المسافات في أثناء التطريز وتوزيعِ الغُرَز والنقوش.

كما أنّ المواد التي كانت تستخدمُ في الصباغة مواد طبيعية تماماً. إذ ورد في أحد الكتب الصادرة عن مؤسسة بيتنا بالتعاون مع مجلس الترويج السياحي في اليمن أنّ "النيلة كانت تُستخدم للحصول على اللون الأزرق، فيما يستخدم قشر الرمان والفوّة للحصول على اللون الأحمر، أمّا إذا أُريد صباغة القماش بالأصفر فيُستخدم الزعفران لذلك، ويُستفاد من أحجار الشبّ والملح والخلّ المَحلّي المصنوع من الزبيب في تثبيت الألوان".

وفي الحديثِ عن تطريز الأقمشة في الأزياء القديمة، تعلّق النوبي قائلة: "كانت تُستخدم في تشكيل الغرز مسطرة خاصة تحتوي على مختلف الغرز اليمنية القديمة، كانت الغُرَز القديمة تتميز بثلاثةِ ألوان، هي: الأصفر والأبيض والأخضر، هذه الألوان الثلاثة كانت بمثابة ألوان رئيسة لغرز التطريز، بخاصة اللون الأبيض".

نماذج من الأزياء التراثية الخاصة بالمرأة اليمنية

وبحسب المرجع الصادر عن مؤسسة "بيتنا للتراث والتنمية" و"مجلس الترويج السياحي" الذي يستعرض عدداً من الأزياء القديمة، قامت بجمعها وإجراء الدراسات والأبحاث عليها الباحثة في الموروث الشعبي أمة الرزاق جحاف، فقد ذكرت أنّ الزبون العمراني يعدُّ من أهم وأشهر الفساتين والأزياء المصنوعة من القطن المصبّغ بالنيلة، والذي يعدّ لوحة فنيّة تمتاز بكثافة تطريزها، تتضمّن لمسات بديعة وانسجاماً لونياً جميلاً، قامت العروس بتطريزه طوال فترة خطبتها - التي امتدّت عاماً كاملاً - للتدليل على مهارتها، حيث كانت الفتيات يتنافسن في إظهار مهاراتهن في ذلك بواسطة الإبرة العادية، وبخيطٍ من القطن المغزول يدوياً بمغزل بدائي، ويتجاوز عمر هذا الزي 100 عام.

وفي كثيرٍ من الأحيان كانت أم العروسِ تتولّى خياطة فستان زفاف ابنتها، ليظهر على صورةٍ تعبّر عن الفخامة والرقيّ في آن واحد، فلا تخرج العروس من بيت أبيها إلا بفستان حاكته أنامل أمّها التي تعمدُ إلى تطعيمه ببعض الأذكار والأدعية المطرّزة على الفستان لحماية ابنتها.

أما الزي المَلحاني التابع لمحافظة المحويت والمصنوع من قماش الكتّان فهو الآخَر أحد الفساتين التي ترتديها العروس، حيث يحضر العريس الخيوط المستخدمة في حياكته من مستعمرة عدن آنذاك كشرط من شروط كسوة وجهاز العروس، لتباشر العروس بعد ذلك إظهار مهارتها في خياطته والتفنُّن في حياكته، تطريز هذا الزي والتوشية مستمدّ من جمالية البيئة المحويتية، إذ يجري تطريز جميع المنطقة المستطيلة التي تتوسط واجهة الزي والجزء الأعلى من الظهر .

زي محافظة حجة – مديرية شهارة، مصنوعٌ من القطن المصبّغ، يصل طوله إلى منتصف الساق، وطول أكمامه 50 سنتيمتراً وعرضها إلى نحو 35 سنتمتراً، ويضاف نوع آخر من قماش الحرير الدمشقي المستورد إلى مقلب القميص كنوع من أنواع الزينة، ويطعّم بأزرار أُضيفت كميزة جمالية للزي نظراً إلى ندرتها في ذلك الحين، ويزين الزي بقشر الأصداف البحرية للاعتقاد بدفعها العين والحسد، وترتديه المرأة حين تذهب إلى المناسبات الخاصة، واضعةً "شيلة" من القطن تغطيها من أعلى رأسها ووجهها إلى أخمص قدميها، والعمر الافتراضي لهذا الزي 200 عام.

وتمتاز محافظةُ حضرموت بالذيل أو"القُدْمة"، وهو زيّ مصنوعٌ من المخمل، قصيرٌ من الأمام طويلٌ من الخلف، ذو أكمام ضيقة وقصيرة، منسوج بأسلاك دقيقة من الفضة تفصل بينها أشرطة قماشية ملونة من الحرير مطرّزة بالسيم ومزيّنة بالتل والأصداف البحرية، بحسب المصادر.

أمّا مناطق جبل رأس في تهامة، فتُحاكُ أزياؤها وتضاف إليها "خيوط الخَدُّوجة"، إذ يجري نسج كمية من هذه الخيوط تصل إلى 300 متر، ثم تُركّب على القماش ليظهر بشكلٍ جميل وجذاب. 

ويُطلق على كل زي عريض الكُمَّين مسمى "قميص"،  وكلّ زيّ ضيق الكُمّين مسمى "ثوب".

أغطيةُ الرأس والحليّ تُكمل الصورة الجمالية

أمّا أغطيةُ الرأس فقد تنوّعت شأنها شأن الأزياءِ على اختلافها، فمنها القرقوش الذي كان خاصاً بالفتاة قبل الزواج ودالاً على عزوبيتها، فإذا تزوجت تخلّت عنه ليلة العُرس، وإذا لم تتزوج يقيم الأهل احتفالاً أسرياً ويخلعونه عنها وسط الزغاريد لإدخال البهجة على نفسها، وفق ما تشير المصادر، ويُذكر أنه كان يُصنع من قماش الجرز الأصلي أو الدمس.

ومنها مناديل الرأس المطرزة بالفضة التي تُثبَّت في مقدّمها جنيهات ذهبية تتدلى على جبين المرأة في أناقة، وتتجاوز جميعها 100 عام من عمرها الافتراضي.

لم تكُن المرأةُ اليمنية لتتخلّى عن الحليّ المصنوعة من الفضة الخالصة والمرجان وحجر التايجر والكهرمان وبعض الأحجار الكريمة، إذْ لا بدّ منها لاكتمالِ الصورة الجمالية لموروث الزيّ الشعبي، فتزيّن جبينها بالجنيهات الذهبية أو القطع الفضيّة التي تتدلّى في جمالٍ ساحر، وترتدي العروس والنِّفاسُ عقود المرجان على عنقها، اعتقاداً بحماية حاملها من الحسد والأرواح الشريرة، ويحتوي عقد المرجان في مقدّمه على قطعة فضيّة يمكن فتحها وإغلاقها، توضع في داخلها بعض التمائم والحروز.

وترتدي المرأة ما يسمّى العقد والدُقَّة، وبعض الحليّ المصنوعة من الفضة البوسانية المشهورة بدقة صناعتها، والعنابش وتيجان الملوك والخواتم والأساور والمعاضد الفضية التي تُلبس في العضد بطريقة لا يلتقي فيها قطبيه، وتقول أنيسة النوبي: "ينبغي أن يضغط المعضُد على الزند، بحيث تبقى المنقطة ما بين قطبيه فارغة ما يساعد على تفريغ الجسم من الشحنات السالبة".

وهكذا تشكّلُ الأزياءُ التراثية للمرأة اليمنية تاريخاً وإرثاً حضارياً عريقاً، يجعلُ اليمن أيقونة حضارية متفرّدة، كلّ فنّ وموروث فيها يعبّرُ عن غنىً وثراء تاريخي إنسانيّ تليد، ولعلّ ما يميّز هذه الحضارة أنّ الإنسان فيها استطاع أن يمتزج ويتّحد بالطبيعة بكل خصائصها، فكان اليمنيّ مرآة الطبيعة في جمالها وقوتها وصلابتها وليونتها وقسوتها، يجمعُ أضدادها ويأتلف معها في انسجامٍ ساحر تعكسه موروثاته الشعبية المتنوعة.

ملاك محمود - الميادين نت