بين أزمتي التضخم والركود.. ما مستقبل الاقتصاد الأوروبي؟

واجه الاتحاد الأوروبي سلسلة من التهديدات الوجودية منذ نشأته عام 1993، ونجا منها على مر السنين، ولكن في العصر الحديث، كشف وباء "كوفيد 19" عام 2019، والمستمرة تداعياته المباشرة إلى الآن، عن "جروح قديمة" يمكن أن تتحول إلى خطر على وحدة أوروبا، بحسب رئيس المفوضية الأوروبية السابق جاك ديلور.

يرى ديلور أن "الجرثومة عادت"، مؤكداً أن الوحدة يجب أن تكون أكثر من مجرد شعار للاتحاد الأوروبي في أي أزمة. واليوم، برزت أزمة التضخم الجديدة التي ضربت أوروبا، وعاد معها الحديث مرةً جديدةً عن الانقسام "غير المرئي" الحاصل بين دولها، وخصوصاً أن أزمات غير بعيدة عصفت بينهم، منها قضية "اليورو" وقضية استقبال اللاجئين.

وفي كل الأزمات، شعر الجنوب والشرق الأوروبيان بتأثر أشد بكثير من الشمال والغرب. وحذَّرت هذه الأزمة من تفكك المنظومة الاقتصادية التي كانت دول الاتحاد الأوروبي تتباهى بها. كورونا كشف في مكانٍ ما حجم التباعد السياسي والاقتصادي بين دول الاتحاد. واليوم، يعود حديث التضخم لتفعيل الأمر نفسه، إذ باتت الدول تختلف فيما بينها على وجوب دعم أوكرانيا بالنسق ذاته، لاعتبار هذا الدعم هو أحد مسببات الأزمة الحالية. 

كما تبين الفارق بالأرقام بين التضخم الحاصل بين بعض الدول. على سبيل المثال، في ليتوانيا تجاوز التضخم في آب/أغسطس 25%، وكذلك لاتفيا، لكن في فرنسا بلغ التضخم 6.8%، وهي النسبة الأعلى على الإطلاق منذ بدء الأزمة.

خلفيات الأزمة
لكن هل الأزمة الحاصلة سببها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؟ يؤكد هانز فيرنر سينن، الرئيس السابق لمعهد "إيفو ميونخ"، أن المسؤولية الرئيسية عن التضخم المرتفع "بشكل غير عادي" تقع على عاتق البنك المركزي الأوروبي.

وقال في تصريح لموقع "compact" الألماني: "الادعاءات القائلة إنَّ اللوم على التضخم في أوروبا يقع على عاتق روسيا وحدها تعطي فقط صورة مبسطة للوضع"، إذ إن البنك المركزي الأوروبي أشعل الفتيل سابقاً بخطوات غير مدروسة، وباتت الأزمة الناجمة عن "فيروس كورونا الشرارة التي أشعلت النار في كل شيء".

حمّل سينن البنك المركزي الأوروبي نصيباً واضحاً من المسؤولية عن الأزمة الحالية التي لا تزال، بحسب تعبيره، في بدايتها. بدأت، بحسب ما رأى، مع أزمة كورونا، ومن ثم شراء البنك 5.3 تريليون يورو من الأوراق المالية الحكومية. وكان من شأن طباعة النقود اللازمة أن تؤدي إلى توسع كبير في المعروض النقدي. والآن، لا يمكن للبنك المركزي الأوروبي أن يوقف التضخم إلا من خلال إعادة بيع الأوراق المالية الحكومية التي تزيد قيمتها على 4 تريليونات يورو. ومع ذلك، فإن هذا ليس ممكناً، لأن مدتها تصل إلى 31 عاماً، والبلدان المتضررة ليس لديها مصلحة في ذلك.

وقتها، اختلف الأوروبيون على منهج هذه الخطط وطريقتها، ففي الوقت الذي تطالب إيطاليا وفرنسا وإسبانيا بإصدار سندات حكومية أوروبية (يورو بوند أو سندات كورونا)، تسمح من خلالها بجمع الديون السيادية للبلدان الأوروبية لتصبح ديناً سيادياً أوروبياً واحداً، اعترضت الدول الأوروبية "الثرية"، مثل ألمانيا والنمسا وهولندا، على تلك الخطة، رافضةً أن يسدد مواطنوها فاتورة ما يصفونه بـ"انفلات ميزانيات دول جنوب القارة". 

كما أن الموافقة على "سندات اليورو" كانت ستعني أن على دول اليورو كمجموعة أخذ ديون مشتركة من الأسواق المالية وتوزيعها بينها وإعطاء ضمانة مشتركة لإعادة دفع هذه الديون والفوائد. والبلدان القوية مالياً سيتوجب عليها دفع فوائد عالية أكثر من الآن، فيما سيخف عبء الديون على البلدان الضعيفة مالياً. وإذا ما أصبحت بلدان غير قادرة على الدفع، فإن الدول المتبقية تتحمل ديونها وفوائدها. 

تختلف موجات التضخم المعتادة في أوروبا عن التضخم الحالي الذي عززته أزمة الطاقة، وتشديد أوضاع سوق العمل، وتراجع أداء اليورو، ورفع المركزي الأوروبي لسعر الفائدة بمعدلات كبيرة، وتزايد المؤشرات الدالة على الركود الوشيك للاقتصاد الأوروبي.

في دول منطقة اليورو، ارتفع التضخم السنوي إلى 9.1% في آب/أغسطس، ارتفاعاً من 8.9% في تموز/يوليو، وذلك وفق أحدث إحصائيات لوكالة إحصاءات الاتحاد الأوروبي.

هذا التضخم بلغ أعلى مستوياته منذ بدء التسجيل لليورو عام 1997. وبناء عليه، ارتفعت أسعار الطاقة 38.3%، وأسعار المواد الغذائية 10.6%، كما ارتفعت أسعار السلع بنسبة 5% وتكلفة الخدمات بنسبة 3.8%.

لا توجد آفاق مشرقة مستقبلاً، إذ إن البنوك المركزية أمام خيارين أحلاهما مر. ويعلم الاقتصاديون أنَّ الركود سيئ، والتضخم سيئ أيضاً، لكن البنوك المركزية تجازف في إدخال الاقتصاد في ركود عبر التحكم في أسعار الفائدة التي تعد أداتها الرئيسة للسيطرة على التضخم عن طريق الضغط على الأسر والشركات حتى يتوقفوا عن الإنفاق كثيراً. خيار يعتبر أهم من الاستمرار في نسب تضخم مرتفعة على المدى الطويل، لأن استمرار التضخم لمدة طويلة قد يصبح حالة عادية من الصعب الرجوع عنها مستقبلاً.

وعادةً ما تلجأ الاقتصادات المتقدمة إلى رفع الفائدة كي لا يتمكّن التضخم منها، وخصوصاً أن نسب التضخم المرتفعة تخنق الاقتصاد والاستثمارات على المدى الطويل، فيما الركود، في حال حصل نتيجة رفع أسعار الفائدة، من الممكن أن يخرج منه الاقتصاد مع قليل من الوقت.

بين الركود والتضخم
وإذا استمر الركود على مدى ربعين من السنة على سبيل المثال، من الممكن أن يبدأ الاقتصاد بالتحسن في الربع الثالث، بحسب العلم الاقتصادي، حتى إنه يمكن أن ينتقل إلى النمو في الربع الأخير من السنة، لكن إذا "تمسّك" التضخم بالاقتصاد، فمن المرجح أن يبقى لسنوات إلى جانب حدوث الركود.

هذا بالتحليل العلمي، لكن من جهته، يتوقع صندوق النقد الدولي تباطؤ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من 3.2% في عام 2022 إلى 2.9% أو 2% خلال عام 2023 مع معدل نمو صفري تقريباً في أوروبا خلال عام 2023. وبناء عليه، فإن التضخم عند مستوياته الحالية بات يشكل خطراً على استقرار اقتصاد أوروبا الكلي الحالي والمستقبلي.

في فترات التضخم، تكثر الأموال الزائدة في الاقتصاد، والتي غالباً ما تنتج من الإقراض المصرفي أو طباعة النقود من البنك المركزي وعدم قدرة الاقتصاد على إنتاج ما يكفي السلع والخدمات لمواكبة الطلب عليها. استمرار التضخم غالباً ما يكون ظاهرة اقتصادية ضارة تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ما يقلل من القوة الشرائية، ويؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد. أما في فترات الركود، فتنخفض الأسعار بسبب توفر عدد أقل من السلع للشراء، ما يتسبب بانخفاض المعروض من النقود.

خيارات سيئة تحاصر أوروبا تتعلق بالتضخم والركود، إذ تخشى أوروبا حدوث تضخم مصحوب بالركود أو ما يعرف بـ"الركود التضخمي"، في وقت يسارع البنك الخطى إلى زيادة أسعار الفائدة.

والخوف هو أن يلازم هذه الخطوةَ نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية بدأت بالارتفاع مع انتشار كورونا، وبالتالي الوصول إلى تضخم غير مسيطر عليه يرافقه ركود اقتصادي قوي، وهي توليفة بإمكانها الهبوط بأقوى الاقتصادات العالمية، إذا اجتمعا معاً لعدة شهور، وربما سنوات، في دولة أو قارة ما.

وبناء عليه، ستلجأ كل دولة، بحسب ما هو مرجح، مثلما حصل في أزمة "كورونا"، إلى العمل بمفردها للخروج من أزمة ستطول تداعياتها على التعاون الاقتصادي بين دول الاتحاد.