Logo

الموسيقى في 2025: محاولة تنبّؤ في سياق عربي

هل يُخفي لنا هذا العام، الذي ما زلنا في أوله، مفاجأة موسيقية يمكن أن تفضي إلى ضخ دماء جديدة في الأغنية العربية؟ هذا بطبيعة الحال لا يسمح لنا بالسؤال عن تحولات ثورية، حتى بالنسبة لأكثر الناس تفاؤلاً بموسيقى هذا العام.
 
لعلّ التنبؤ بالموسيقى قد يكون مسألة أكثر تعقيداً من تلك المتعلقة بقضايا السياسة، لأن "الموسيقى لا يمكن التنبؤ بها"، وفقاً لمهندس الصوت والكاتب الأسترالي رينو بريبارت (Rino Breebaart)، إذ يتساءل: "من كان بمقدوره أن يتنبأ بفرقة البيتلز؟". 

يمكن إسقاط هذا السؤال عربياً حول أغاني المهرجانات. مع الفارق بينها وبين ظاهرة مثل البيتلز. لكن الأنواع الموسيقية تنشأ في الخفاء، ثم فجأة تصبح ظاهرة شعبية.
 
وإذا عدنا إلى أغاني الثمانينيات في مصر، فإنها كانت محل إدانة الأوساط النقدية والفنية، بوصفها فقاعة لن تستمر. وكما يبدو أن الخطابية النرجسية حالت دون الاعتراف بالأمر الواقع.
 
عادةً، تكون اتجاهات الموسيقى استجابة لعوامل اجتماعية، دور الجمهور فيها بمثابة التمثيل الانتخابي. وهذا التمثيل يصعب توقعه، مثل كثير من ظواهر الحياة، مهما اعتمدنا على بيانات إحصائية أو استقصائية.
 
يرى مهندس الصوت الأسترالي، رينو بريبارت، أنه لا بد أن نكون "مغرورين للغاية، أو يائسين، إذا ما أردنا أن نتنبأ بمستقبل الموسيقى". لكن ذلك لا يعني أن قراءة مسبقة لما يمكن أن تكون عليه توجهات الأغنية العربية لعام 2025، هو ذلك النوع من اليأس.
 
إنها مسألة تتعلق بطبيعة المشهد نفسه وتوجهاته العامة، بوصفه امتداداً لما جاء قبله. ووفقاً لما سبق من شكل الموسيقى، لا يبدو أن هناك ملمحاً واضحاً لتبلور أنواع موسيقية جديدة أو لنشوء تحولات موسيقية.
 
هناك سمة عامة تجمع شكل الفنون حول العالم، وبالتالي ستبقى صناعة الموسيقى خارج الانتساب لتيارات بعينها. وهذا لا يعني عدم وجود أشكال موسيقية مستقلة، لكن طبيعة الموسيقى تتجه نحو الدمج المستمر.
 
وهذا مسار يسمح للأساليب الغنائية في العالم العربي بدمج عناصر من بعضها بعضاً. 

ومن المحتمل أن نرى هذا الاتجاه يزيد بالنسبة لأغاني الأندرغراوند، على غرار المهرجانات في مصر، بالاقتراب من البوب واستيعاب عناصر منه في بعض الإنتاجات، تحديداً بعد دخول شركات إنتاج موسيقية لاستيعاب هذا المجال.

 تتسم موسيقى البوب بعملية تدوير مستمر بحثاً عن تجديد نفسها من خلال إعادة النظر في الماضي، كما لو أنها عملية إحياء مستمرة عبر حقنها بهرمونات تخفي شيخوختها أو تقادمها. 

وهذا خيار تنحو له موسيقى تضاءلت خياراتها، لكن آلية السوق تُجبرها عن تقديم طراز ما، أو موضة.
 
في هذا السياق، تقترح لنا قائمة الأغاني الأكثر نجاحاً في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، صورة إحيائية لموسيقى السبعينيات، فنلاحظ استخدامها الأنماط الموسيقية التي شكلت تلك الفترة، مثل الديسكو والفانك والساينث.
 
بالطبع، ازدهرت موسيقى الديسكو خلال السبعينيات، وطغت على المشهد الموسيقي بوصفها إحدى نتاجات طفرة الحريات ذات الطابع الجنساني في الستينيات. ولعل إحياءها منذ أواخر العقد السابق يتقاطع مع خطاب يدعم تلك الحريات في قلب القرار السياسي.
 
لكن هذا الإحياء للماضي يتسم بإعادة إنتاج أسلوبه، وتطويعه بدمج أساليب تنتمي إلى أزمنة مختلفة. 

هذا ما تعبر عنه أغنية Espresso لصابرينا كاربنتر (Sabrina Carpenter)، بدرجة كبيرة، وهي أغنية على الفانك ديسكو والساينث بوب، غير أنها تعتمد على أسلوب الدرامز لموسيقى الهيب هوب العائد إلى مطلع الألفية، مع تطويع الآر آند بي بروح التسعينيات، مع استخدام الساينث في فترة الثمانينيات، خلافاً لأسلوب الغيتارات في السبعينيات.
 
لكن ما يميز أغنية كاربنتر هو اختفاء الحدة الإيقاعية واللحنية التي اتسمت فيها أغاني الثمانينيات والسبعينيات المنتسبة إلى هذا النوع. 

وبالمجمل لا يمكن حصر الموسيقى على أنماط بعينها، بحكم أن البوب ما زال يمارس انفتاحه على جميع الأنواع الموسيقية من دون استثناء.
 
على صعيد البوب العربي، بدأت تظهر تلك السمات، لكن باقتصارها على استعادة فترات محددة، مثل استخدام المقسوم على طريقة التسعينيات، وبدرجة أقل الثمانينيات. 

من المتوقع أن تشهد صناعة الأغنية العربية تركيزاً على دمج عناصر من روح أزمنة مختلفة في الوقت نفسه. تعيد تلك الاستعارات للماضي خلقَ اتصال بين أزمنة غنائية. وتمنح الجمهور حنيناً خفياً بحكم أن اتصاله بالموسيقى قائم على إعادة أسلبة الماضي.
 
لا شك أن الموسيقى شهدت استعارات عديدة من روح الماضي. لكن سمة "التكرار والاختلاف" في الموسيقى الحديثة تدور حول نفسها بتواتر. هناك دائماً رغبة بخلق طرازات جديدة، يقابله ركود في المضامين اللحنية والأشكال، بعد المداومة المستمرة على إعادة الاستهلاك.
 
مثلاً، نلاحظ محاولة لاستحضار الأصوات الطبيعية في الموسيقى بعد أن طغت لسنوات عديدة الموسيقى الإلكترونية والمؤثرات الصوتية. وهذه سمة يمكن ملاحظتها في الموسيقى الأميركية عبر استخدام صوت الغيتار الطبيعي في بعض الأغاني الريفية.
 
عربياً، نلاحظ عودة إلى الملامح الشرقية. وهو مسار يحضر في كثير من ألحان عزيز الشافعي. وهذا الأخير، على خلاف ملحني جيله الذين اعتادوا الظهور بالغيتار، يحرص على الظهور بالعود الشرقي، أي على طراز الملحنين التقليديين.
 
يستمر هذا الاتجاه مع شافعي في لحنه لبهاء سلطان "أنا من غيرك". اللافت أيضاً في لحنه "بكائيات"، وهو دويتو شاركته فيه الفنانة كارمن سليمان، استعادة ملامح موسيقى السبعينيات، فنجد لمحات من أسلوب الملحن خالد الأمير على غرار "أصاحب مين"، بخلاف وجود لمحات من أسلوب بليغ حمدي، بوصفه أسلوباً لا يزال مداوماً على النجاح.
 
في هذا النسيج، تحضر الآلة الشرقية، لكن لا يزال استخدامها يفتقر إلى الأسلبة الموسيقية على غرار الفترة السابقة. ربما تحضر مثل تلك العناصر الأسلوبية في استخدام الآلات المختلفة، لإيجاد شروط حديثة تتوافق مع الاتجاهات في الموسيقى الغربية بأساليبنا الشرقية.
 
ربما كانت أغنية "حبيبي ولا على باله" النموذج الأكثر بريقاً في العودة إلى الشرقي، وبتقديمها ملمحاً من التخت بأسلوب عصري، يسمح لنا بابتكار مسمى لهذا النوع "البوب - تخت" على غرار مصطلح "البوب - باروك" في الغرب، وهو أسلوب يمزج البوب بعناصر من موسيقى الباروك.
 
عموماً، يمكن الذهاب إلى أن الموسيقى تتجه إلى تعزيز الثقافات الموسيقية الهامشية. فنرى في مصر استخدام شكل من المهرجانات تتسم بنبرة أداء سيناوية. ويمكن أن تحضر في الموسيقى الأخرى في الخليج العربي مثل مقاربة بين "الشيلات" والبوب الخليجي،

 وأيضاً في الأغنية العراقية. ولعل ظهور محمد الشامي هو تأكيد على سطوة اللون الشعبي وإعادة دمجه في إطار موسيقي حديث، لكن أيضاً بتخفيف حمولته اللحنية، ليصبح الغناء أكثر اقتراباً من الخطاب العادي أو اليومي، أو إلى شكل آخر من الراب، الأقل خشونة، لكن بتنغيم شعبي.
 
لا شك أن عام 2025 يمثّل مرحلة إعادة اختبار عناصر موسيقية مختلفة بحثاً عن القيمة السوقية. مع الاعتماد على المؤثرات الموسيقية الاعتيادية مثل الأوتوتيون، ومؤثرات Glitch. إلى جانب إضفاء طرازات مختلفة على غرار Alternative Dance أو أندرغراوند دانس، إضافةً إلى ما سبق استخدامه من الأشكال الموسيقية. 

ولا ننسى استخدام لمحات من البوب التركي، بما في ذلك طابعها الحزين، على غرار أغنية "هيجيلي موجوع" لتامر عاشور.
 
ما يجعلنا نعيد النظر في واقع الموسيقى اليوم، هو تعريفها بمصطلح "محتوى". أي مثلها مثل أي محتوى آخر، من تلك المحتويات التي تكتظ بها عوالم مواقع التواصل الاجتماعي. 

وهذا يعني أنها تضع الموسيقى أمام فجوة معيارية، تلقيها برمتها نحو وحش السوق وتنافسه، وتحدد قيمتها بما تجنيه من أرباح أو قيمة سوقية.
 
وفق ذلك، يمكن التأكيد أن صناعة الأغنية العربية ستستمر في جني الأرباح، بصرف النظر عن الأغاني الأكثر نجاحاً.
 
لكن النوستاليجيا الطافحة لا تسمح لنا بالتنبؤ عن أي نوع، فمثلاً حققت أغنية وائل جسار "كل وعد"، بوصفها تستعيد النسخة التي أظهرته مطلع الألفية بسلسلة من الألحان العاطفية والرومانسية السائدة، بألحان وليد سعد. 

ربما سيحاول عمرو دياب استعادة نسخة منه تعيدنا إلى أواخر التسعينيات أو مطلع الألفية، وإن بنمط تحديثي.
 
وفي كل الأحوال، يبقى ملمح واحد بكونها موسيقى فقدت شغف الابتكار والتجديد. وتتماهى مع حالة من النوستاليجيا، كما لو أنها مركبة زمن تعيد شغف الإنسان بماضيه وشواهد آثاره، كما لو أنها مسرح للدهشة على أطلاله

 جمال حسن