بينالي "أمار" يستعيد "الأغاني الساخرة" في العالم العربي
معروف أن البينالي يختار في كل دورة، موضوعاً محدداً من الأرشيف الموسيقي العربي من أجل دراسته المعمقة، عبر أنشطة ووسائط عدة بالتعاون مع مجموعة من المتخصصين من مجالات علمية ومهنية مختلفة. وتهدف هذه الأنشطة إلى دراسة الإرث الثقافي في مختلف المناطق العربية وإلى فهم أفضل لخصوصيته ولأطره التاريخية والاجتماعية والسياسية.
ويشكل رصيد هذه الأعمال وثائق تاريخية في معرفة التحولات المجتمعية، وهو بالتالي أحد مكونات الذاكرة الجماعية التي يجب حفظها ونشرها في وجه المحاولات الممنهجة لمحوها.
نوعت أعمال هذه الدورة من إقامة فنية إلى إطلاق إصدارٍ سمعي وبحثي جديد، إضافة إلى ندوات وعروض أفلام وثائقية مختصة وسلسلة من الفيديوهات المنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي. وتختتم الأنشطة بحفلة من الأغاني الساخرة يقدمها المشاركون في الإقامة الفنية. شارك في الأنشطة 10 باحثين ومخرجين إضافة إلى سبعة موسيقيين. وقد أقيمت الدورة الأولى من البينالي بدعم من الحكومة النرويجية والصندوق العربي للثقافة والفنون "آفاق"، وقدمت الندوات في متحف سرسق.
أعمال البينالي
تكون برنامج البينالي من خمسة أنواع من الأنشطة، هي: إطلاق إصدار موسيقي، وندوات، وعروض أفلام، وعروض سلسلة فيديوهات قصيرة منتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي إضافة إلى الإقامة الفنية والحفلة الختامية. في ما يلي نبذة عنهم: أطلقت مؤسسة "أمار" إصدارها الجديد بعنوان "الأغاني الساخرة: أصوات معارضة من بلاد الشام 1920-1950"
يستعرض هذا الإصدار مجموعة من الأغاني الساخرة والنقدية التي ظهرت في بلاد الشام خلال فترة الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وهي مرحلة شهدت تحولات سياسية واجتماعية عميقة. من خلال تسجيلات أرشيفية نادرة، يكشف هذا العمل عن كيفية تجاوز هذه الأغاني الحدود الاستعمارية لتعبّر بأسلوب يجمع بين الفكاهة والنقد الحاد عن قضايا الهوية والمقاومة والحياة اليومية.
تشكل هذه التسجيلات اليوم وثائق تاريخية مهمة في معرفة تحديات تلك الحقبة، ولعل دراستها ونشرها ضرورة للحفاظ على هذا التراث ومنعه من الزوال واعتبارها مكوناً من الذاكرة الجماعية للمنطقة، خصوصاً في وجه محاولات الإبادة والمحو الممنهجين لتاريخها وهويتها. يشمل الكتيب ثلاث دراسات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية إضافة إلى 78 تسجيلاً سمعياً من الأغنيات الساخرة.
ندوات بحثية
شهد البينالي ندوات دراسية شارك فيها متخصصون في علوم الاجتماع والتاريخ واللسانيات وعلم موسيقى الشعوب حول تأثير الأغنية الساخرة وتطورها في القرن الـ20 في المنطقة العربية. ويشمل ذلك إطلاق إصدار مؤسسة "أمار" الجديد بعنوان "الأغاني الساخرة: أصوات معارضة من بلاد الشام 1920-1950"
إضافة إلى أربع حلقات نقاشية تركز على الأغنية الساخرة في مصر وفلسطين والجزائر واليمن، إلى جانب حلقة ختامية تقدم خلاصات واقتراحات عما تمت مناقشته خلال البينالي، يدير هذا النشاط أكرم الريس.
عروض أفلام
وتفرد البينالي بتخصيص حيز لعروض أفلام تتناول الشأن الموسيقي. قد تكون في بعض الأحيان روائية، وثائقية أو تسجيلية، وفي أحيان أخرى حفلات موسيقية مصورة. وتتم معالجة هذه الأفلام ليس بالضرورة من الجانب السينمائي البحت، إنما من جانب التحليل الإتنوموسيقي.
في هذه الدورة تم التركيز على أفلام تطرقت لدور الأغنية الساخرة في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية. يرافق هذه العروض، نقاد باحثون أو مخرجون من مختلف أنحاء المنطقة العربية لتقديم آرائهم حول الموضوع والحوار مع الحضور.
واحتفل البينالي بالفنان اللبناني عمر الزعني في تظاهرة بعنوان "رجع عا بيروت" وقدم سلسلة فواصل فيديو قصيرة منتجة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
استطاعت التسجيلات السمعية القديمة للفنان عمر الزعني أن تنجو وتعبر من القرن الماضي إلى يومنا هذا، ولكن لم تتوفر مقاطع فيديو توثق نشاطه الفني ويومياته،
ونظراً إلى قدرة أعماله على محاكاة التحديات الاجتماعية والسياسية للزمن الحاضر ومن ثم مخاطبة الجيل الجديد، استعانت المؤسسة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مستندة إلى بعض الصور من هنا ومن هناك،
وإلى بعض الأبحاث والحكايات التي تدور حوله وحول أغانيه، لإعادة إحياء تراث هذا الفنان الساخر الملتزم بقضايا الشعب.
حفلة موسيقية
قدم الفنانون المقيمون في البينالي، حفلة موسيقية استناداً إلى الأغاني الساخرة في أرشيف مؤسسة "أمار"، بما في ذلك أعمال أقل شهرة لعمر الزعني والشيخ إمام وسيد درويش وسلامة الأغواني وموسيقى "الشعبي" الجزائرية وآخرين.
وبدت الحفلة نتيجة لإقامة فنية على مدار أسبوع، في مقر مؤسسة "أمار" في قرية قرنة الحمراء، وشارك فيها سبعة فنانين من لبنان والدول العربية، قاموا بتبادل المعلومات والخبرات والتجارب الموسيقية والبحث في أرشيف "أمار" عن الأغاني الساخرة ودراسة المخزون الموسيقي.
من خلال هذا المسار التعاوني، أضاء الموسيقيون على أعمال أقل شهرة لعمر الزعني والشيخ إمام وسيد درويش وسلامة الأغواني ولور دكاش وسهام رفقي وغيرهم من الأعلام.
جرى الافتتاح الرسمي للبينالي في متحف سرسق – بيروت، بحضور حوالى 100 شخص من فنانين وباحثين ومهتمين. استهلت المؤسسة الحدث بكلمة ترحيبية من مديرة المشروع هبة الحاج فيلدر، أعقبتها كلمة من السفيرة النرويجية، ثم مداخلة ممثلة "آفاق".
بعدها، تم تقديم عرض بصري متقن صُمم باستخدام الذكاء الاصطناعي، تناول أرشيف الفنان عمر الزعني، أحد رموز الأغنية الساخرة في لبنان.
ثم أقيمت ندوة نقاشية ضمت الدكتورة ديانا عباني، الدكتور نادر سراج، والأب الدكتور بديع الحاج، تم خلالها استعراض نماذج الغنائية الساخرة من بلاد الشام بين عامي 1920 و1950، إضافة إلى خصائصها اللغوية والموسيقية مرفقة بعرض سمعي.
ركز المتحدثون على أن هذا النوع من الأغاني هو شكل من أشكال المقاومة الثقافية و"كاريكاتير سمعي" يتجاوز الحدود الاستعمارية، ويعكس فضاء ثقافياً مشتركاً.
بلاد الشام ومصر والجزائر
قامت مؤسسة "أمار" بإطلاق إصدارها السمعي-البحثي الجديد حول "الأغنية الساخرة" في بلاد الشام بين 1920 و1950، ويتألف من كتيب يتناول جانباً نادراً من التراث الغنائي الساخر في بلاد الشام خلال فترة الانتدابين الفرنسي والبريطاني.
ويضم الإصدار مجموعة مختارة من 78 أغنية نادرة عكست ردود فعل الناس على القضايا الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة، حيث تلتقي الروح الشعبية بالتوثيق التاريخي.
أما ندوة "الأغنية الساخرة المصرية"، فجمعت بين البحث الأكاديمي والعرض الموسيقي التفاعلي. افتتحت الندوة بعرض مسجل قدمه الباحث الفرنسي فريدريك لاغرانج، المتخصص في الموسيقى المصرية في عصر النهضة، حيث أضاء من خلاله على تطور الأغنية الساخرة في مصر من منتصف القرن الـ19 حتى الثلاثينيات من القرن الـ20، وسياقاتها الاجتماعية والثقافية.
أعقبه عرض تحليلي موسيقي قدمه طارق عبدالله، الباحث المصري المتخصص في آلة العود، تناول فيه مفهوم "التطريز الغنائي" وأنواع الفكاهة في الأغنية الساخرة منذ الأربعينيات حتى ميدان التحرير، مستخدماً أداء مباشراً على آلة العود لتوضيح المفاهيم بصورة غير تقليدية ولافتة.
وشملت الندوة عرضاً لأعمال ساخرة لإسماعيل ياسين، الشيخ إمام، محمود عبدالعزيز وعلي الحجار، إلى جانب عرض فيلم وثائقي بعنوان الشيخ المغني لهيني سرور حول حياة الشيخ إمام ودوره في ترسيخ الأغنية الساخرة كأداة فنية مقاومة، وذلك بالتعاون مع نادي لكل الناس.
وفي الندوة المخصصة للأغنية الفلسطينية، أبرز البرنامج تداخل الفن مع قضايا النضال، لا سيما في السياق الفلسطيني.
وبينما تعذر حضور الباحث حازم جمجوم نتيجة ظرف طارئ، قامت منسقة البرنامج، هبة الحاج فلدر، بإلقاء محاضرتها نيابة عنه.
كانت الكلمة تلخيصاً لندوة كان من المزمع أن يقدمها جمجوم بعنوان "فلسطين: قرن من الموسيقى والنضال"، التي كانت ستستعرض تحولات الأغنية الفلسطينية الساخرة والاحتجاجية في سياقاتها السياسية والتاريخية المختلفة.
وقدم البينالي ندوة بعنوان "الأغنية الساخرة في الجزائر – تاريخ وواقع".
قدم الندوة الفنان والباحث في التراث الشعبي عبدالقادر بن دعماش، وحاوره الباحث الفرنسي جان لامبير،
بدأت الندوة بعرض لتاريخ الثقافي وتنوعها عبر المناطق المختلفة في الجزائر، تخللها حديث عن تنوع الأنماط الموسيقية، من التراث الأندلسي، والموسيقى التقليدية الكلاسيكية، والموسيقى الفلكلورية البدوية، وصولاً إلى الأشواق (الموال) وغيرها من الأنماط التي تعكس غنى المشهد الثقافي الجزائري،
مع التأكيد أن الأغنية الساخرة في الجزائر لم تكن مجرد شكل فني، بل أداة نضالية في مواجهة الاستعمار وتثبيت الهوية الوطنية.
وتناول المحاضر تطور هذا الفن منذ بدايات القرن الماضي، حيث لعبت الأغنية الساخرة دوراً فاعلاً في معالجة كثير من القضايا والمواضيع، مثل أزمة الإفقار، الأزمات الاقتصادية، الواقع الاجتماعي، النضال ضد المستعمر، الظروف السياسية، وانتقاد السلطات، إضافة إلى دورها في إيقاظ الوعي والروح الوطنية.
وقد تخلل الندوة عرض لنماذج سمعية مختارة من الأغاني الشعبية الساخرة التي شكّلت علامات بارزة في هذا السياق.
اختتمت سلسلة الندوات الخاصة بـ"الأغاني الساخرة" ندوة عن اليمن. وقدم الباحث في علوم موسيقى الشعوب جان لامبير مداخلة تمحورت حول تجميع أولي ونادر لأرشيف الأغاني الساخرة الأقل شهرة في اليمن، بالتحديد تلك التي تناولت مواضيع سياسية واجتماعية، وظهرت في وقت مبكر مع بدايات التسجيلات الصوتية الأولى في عدن.
حاوره أكرم الريس، العضو المؤسس في الهيئة الإدارية لـ"أمار".
جاءت الجلسة تحت عنوان "من مقبرة الأناضول إلى حصاد الوطن"، في إشارة إلى المراحل التاريخية التي مر بها اليمن من المعارك ضد الإمبراطورية العثمانية إلى نهايات الاستعمار البريطاني.
وهذا عبر عرض بصري مدعوم بأمثلة سمعية، سلطت الندوة الضوء على التأثير المباشر للمعارك والتحولات السياسية في الفن والموسيقى.
كما أبرزت كيف تحول الغناء إلى وسيلة رمزية للتعبير عن الانتماء القومي، خصوصاً مع تصاعد الحركة القومية في خمسينيات القرن الماضي. وأكدت الندوة أهمية دراسة الأغاني الساخرة في عدن، ودورها بوصفها مرآة للذاكرة الجماعية للنضال السياسي والاجتماعي،
مشيرة إلى ندرة الأبحاث في هذا الحقل وضرورة توثيقه أكاديمياً.