الأغنية الخليجية... سوق واعدة يشغلها النمط وتخلو من الشخصية
تشكّلت الأغنية الخليجية الحديثة من منابع ثقافية محليّة متعدّدة، مستلهمةً مزيجاً من المؤثرات اليمنية والعربية، إلى جانب انفتاحها على ثقافات أخرى.
وقد مثّلت هذه الأغنية انعكاساً لتحوّلات اجتماعية وعمرانية عميقة لعب فيها النفط دوراً محورياً، وأسهمت في صياغة وحدة ثقافية كان الغناء أحد أبرز رموزها.
غير أنّ السؤال الذي يُطرح اليوم هو: هل وصلت الأغنية الخليجية إلى مرحلة أصبحت فيها عاجزة عن تقديم الجديد أو الإضافة؟
لا شكّ أن الموسيقى، عموماً، تمرّ بأزمة عالمية، تُعزى في كثير من الأحيان إلى إعادة تدوير الأفكار القديمة أو محاولة تجميلها بطرائق جديدة.
أما الأغنية الخليجية، فهي تعيش إشكالياتها الخاصة، التي قد تكون من جهة مؤشراً على أزمة، ومن جهة أخرى مرحلة تفاعلات قد تقود إلى تحولات غير متوقعة.
شهدت الأغنية الخليجية منذ بداياتها تحوّلات جذرية، بدءاً من الخروج من الأشكال التقليدية، وصولاً إلى تبنّي الآلات الحديثة ومؤسّسات الإنتاج الفني، ما أدى إلى بروز مرحلتَين أساسيتَين:
التأسيس، ثم الكلاسيكية التي بلغت نضجها في سبعينيات القرن الماضي، متزامنة مع الطفرة النفطية، التي شهدت أيضاً بوادر تجريب لأنماط غنائية جديدة. هذا التراكم مهّد لدخول الأغنية الخليجية مرحلة البوب منذ الثمانينيات.
لكنّ هذه التحولات الجوهرية تعود في معظمها إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وقد شكلت الأُسس التي بُني عليها ما تلاها من توهج في مطلع الألفية الجديدة.
أما اليوم، فرغم النشاط الكمي المتزايد والإنتاج الغزير، إلّا أن المشهد يبدو مضطرباً إلى حد ما، وإن كان يحمل في طياته إمكانية لولادة مسارات جديدة، خصوصاً في ظل سوق موسيقيّة واعدة ونمو اقتصادي وفني غير مسبوق في منطقة الخليج، تقوده المملكة العربية السعودية عبر هيئة الترفيه، وما تحظى به من ميزانيات ضخمة وتنظيم غير مسبوق للحفلات الحية والفعاليات الفنية.
على الورق، تبدو الفرص المتاحة أمام الأغنية الخليجية اليوم أكثر من أي وقت مضى، سواء على مستوى الإمكانيات أو في ظل ظروف اجتماعية متغيرة.
غير أنّ هذه الطفرة لم تفرز حتّى الآن تحولات ثورية في البنية الموسيقية الخليجية. فالمشهد الجديد يتأرجح بين محاولات مواكبة التيارات العالمية، مثل الموسيقى البديلة أو الراب، وبين العودة إلى أنماط تقليدية مثل "الشيلات".
ولا يمكن إنكار أنّ منطقة الخليج اليوم أصبحت مركزاً فاعلاً في صناعة "الترند" عربياً، في تحول واضح عن الدور الذي كانت تلعبه مصر لعقود، بوصفها مرجعية فنية لا تنازع.
غير أنّ هذا الحضور الجديد لا ينحصر في عاصمة واحدة، بل يتوزع بين أكثر من مدينة خليجية، باختلاف توجهاتها وأساليبها.
واحدة من أبرز الإشكاليات التي تواجه الأغنية الخليجية حالياً، تكمن في أزمة الأصوات.
ليست المشكلة في غياب المواهب، بل في غياب "الملامح" الصوتية الواضحة، إذ يبدو أنّ الأصوات تندرج ضمن أنماط صوتية واحدة، تُنتج تكراراً وتشابهاً لا يُميَّز.
يشبه هذا، إلى حد بعيد، الهوس العام بعمليات التجميل التي تُنتج "نماذج" متشابهة من الوجوه، مثل الذقن المربع والفك البارز.
في المقابل، كان الجيل السابق يضم أصواتاً ذات سمات فريدة يمكن تمييزها فوراً، مثل طلال مداح، وعبد الكريم عبد القادر، ومحمد عبده، وعلي عبد الستار، وعبد الله الرويشد، ونبيل شعيل، وصولاً إلى راشد الماجد ونوال الكويتية وعبد المجيد عبد الله.
أما اليوم، فعدد قليل فقط يحمل هذا التميّز، مثل حسين الجسمي أو علي بن محمد.
يبرز ماجد المهندس نموذجاً هجيناً، إذ يُظهر تأثيرات عراقية واضحة في صوته، ما يعكس توجهاً خليجياً لاستيعاب أصوات عربية خارجية، مثل اليمني فؤاد عبد الواحد، في محاولة ربما لسد الفراغ الصوتي، أو إثراء المشهد الغنائي.
ورغم نجاح عبد الواحد، إلا أنه يبدو "مقيداً" في أغانيه الخليجية، ولا يُظهر كل إمكانياته كما يفعل عند أدائه أغانٍ يمنية تقليدية مثل "حسك تقلي روح" لمحمد سعد عبد الله.
يبرز هنا فارق الزمن والظرف: جيل محمد عبده كان متعطشاً للغناء، وتفاعل مع الجذور الثقافية من دون قيود، بينما الجيل الحالي يبدو مشبعاً، ويخضع إلى حسابات السوق والمنتجين، ما يحدّ من أصالته.
بل إنّ عبده نفسه استعان بألحان يمنية تقليدية ونسبها إلى نفسه، كما في أغنية "لو كلفتني المحبة"، لكنها كانت تعبيراً عن حنين ثقافي وليس عن انتهازية تجارية.
رغم الانتشار الواسع للأغنية الخليجية عربياً منذ السبعينيات، إلّا أن الجيل الجديد يبدو أقل قدرة على فرض شخصيته الفنية؛ إذ يغلب على كثير من أبنائه النمط الرومانسي المُفرط في النعومة، ما يعكس ربما روح الرفاهية التي تسود الخليج،
كما يظهر عند أسماء مثل عايض، أو عبر ألحان راكان التي تحمل أحياناً طابعاً تركياً.
أما مطرف المطرف، فحاول خلق توازن بين الطابع الكلاسيكي والحديث، بينما يظل نواف الجبرتي أقرب إلى استنساخ أسلوب طلال مداح أكثر من كونه صوتاً جديداً. وفي المحصلة، يغلب النمط على الشخصية في غناء هذا الجيل.
وبينما كان عبد المجيد عبد الله نموذجاً لدمج البالاد الغربي مع الإيقاع الخليجي، فإنّ الاتجاه الآخر يمثله صعود "الشيلات"، وهو نمط قريب من غناء البوادي التقليدي، لكنّه يستخدم توزيعاً موسيقياً حديثاً.
وعلى الرغم من انتشاره الواسع (بدر العزي، ونادر الشراري، ومشعل الشراري)، إلّا أنه لا يُصنّف ضمن الموسيقى البديلة، بل يشبه إلى حد ما صعود المهرجانات في مصر، رغم اختلاف السياق الاجتماعي والثقافي.
سبق للفنان الكويتي ــ القطري سعد الفهد أن أشار إلى "أزمة لحن" تعاني منها الأغنية الخليجية، سمحت بسيطرة الأغنية العراقية وانتشارها.
ينعكس ذلك في توجه بعض الفنانين الخليجيين لغناء اللون العراقي، مثل بدر الشعيبي أو صلاح الزدجالي، إذ إنّ الأغنية العراقية أكثر تكيّفاً مع العناصر الموسيقية الغربية من نظيرتها الخليجية.
أزمة اللحن تبدو نتيجة أمرين:
أولهما ارتهان الأغنية لتوجهات السوق والذائقة السريعة، ما يجعل من الترند هدفاً في حدّ ذاته؛
وثانيهما حالة التشبّع من المراكز التقليدية، ما يتطلب بروز مركز خليجي جديد يحمل حافزاً فنياً ووعياً بضرورة التوازن بين السوق والجودة.
هذا التوجه أدى إلى نوع من "التشبّع" الذي لا يخلو من شعور بالاكتفاء والركون، حتّى إنّ الرمزية التي ارتبطت بمحمد عبده على أنه "فنان العرب" بدت مستعارةً من النموذج المصري، الذي توّج أم كلثوم "سيدةَ الغناء العربي".
لكنّ مكانة الأخيرة كانت حقيقية وفريدة، بينما لا تبدو تسميات الفنانين اليوم محلّ إجماع. هذا يُعيدنا إلى أزمة الحافز الفني؛ فبدلاً من التركيز على إنتاج ألحانٍ جديدة أو حضور مسرحيّ حيّ، تميل الصناعة اليوم إلى الإبهار البصري،
كما حدث مع الأوبرا في البندقية حين تراجعت فنياً لصالح الإبهار الجماهيري.
رغم ما تحققه السعودية من تطوّر تنظيمي واحتضان للمواهب عبر هيئة الترفيه، فإن هناك هاجساً بالاكتفاء الذاتي، عبّر عنه تركي آل الشيخ بتصريحه عن الاعتماد الكامل على موسيقيين خليجيين.
هذا توجّه إيجابي من ناحية تمهيد بنية تحتية، لكنّه لا يجب أن يقود إلى الانغلاق أو القطيعة مع تجارب موسيقية خارجية، خصوصاً أن الإنتاج الخليجي لا يزال يعتمد على موسيقيين مصريين في بعض جوانبه.
هذا كله يعيدنا إلى حقيقة أن الرياض تسعى إلى أن ترث الدور الذي لعبته القاهرة في السابق، لكن من دون أن تتنبّه إلى أنّ هذا الدور كان قد بدأ يتآكل قبل أن يغيب. فهل ترث الرياض الدور فقط أم أزمات الذائقة التي أنهت دور القاهرة في الأساس؟
تقف الأغنية الخليجية اليوم عند لحظة مفصلية، تُمثّل فيها الازدهار التنظيمي والتقني والبنية التحتية المتقدمة أرضية مثالية لانطلاق جديد. لكنّها في الوقت نفسه، تُعاني من انحراف الحافز الفني، وتحول الغناء إلى مجرد أحداث مبهرجة بلا ملامح.
وهنا تكمن الإشكالية: ليس في الإمكانيات، بل في السؤال الثقافي والذوقي العميق الذي ما زال ينتظر إجابة.
جمال حسن