مهرجان الموسيقى العربية... تحديات التنوع والرقمنة
انطلقت في مصر فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من مهرجان الموسيقى العربية واشتمل جدول المهرجان على خمسةٍ وعشرين حفلاً غنائياً تُقام على خمسة مسارح في ثلاث مدن هي القاهرة والإسكندرية ودمنهور،
ويحييها عدد من النجوم في مقدمتهم مدحت صالح، ونادية مصطفى، وهاني شاكر، ووائل جسار، ومحمد الحلو، وحنين الشاطر، وعمر خيرت، ومحمد ثروت، ومروة ناجي، وريهام عبد الغفور، وفؤاد زبادي، وسوما، وصابر الرباعي.
كما تشارك في المهرجان فرقٌ غنائية عدة، من أبرزها فرقة أم كلثوم للموسيقى العربية، وفرقة عبد الحليم نويرة، وفرقة الإنشاد الديني، والحرملك، وكوكب الشرق النسائية، وفرقة على مرّ الأجيال.
وأحيت الفنانة آمال ماهر حفل الافتتاح على مسرح النافورة في دار الأوبرا المصرية. وقد اختارت إدارة المهرجان سيدة الغناء العربي أم كلثوم لتكون شخصية المهرجان لهذه الدورة بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيلها.
وفي الجانب البحثي، اختارت اللجنة العلمية للمؤتمر عنوان: "الموسيقى العربية في ظل التحول الرقمي.. آفاق وتحديات"،
وحددت أربعة محاور رئيسية: مستقبل الموسيقى العربية في عصر الذكاء الصناعي، وآفاق التعليم الموسيقي في ظل التطور التكنولوجي، والرؤى التوثيقية منذ مؤتمر 1932 بالقاهرة وتطورها في ظل الثورة الرقمية، وتحديات إنتاج الموسيقى العربية (تأليفاً وتلحيناً وتوزيعاً وأداءً) في ظل التحول الرقمي.
ينظر كثير من النقاد إلى مهرجان الموسيقى العربية المصري باعتباره أحد أهم الأحداث الموسيقية والغنائية في العالم العربي،
غير أن فعاليات المؤتمر وأنماط الغناء والموسيقى التي يحتضنها تثير تساؤلات حول مدى تمثيله لمختلف ألوان الغناء المصري، ومدى ملاءمة حفلاته للتاريخ الموسيقي الذي راكمته مصر على امتداد أكثر من قرن ونصف القرن، وحول حجم المساحة التي تحظى بها القوالب الكلاسيكية أو الطربية وأساليب أدائها وطرق عرضها.
وقد حظي اختيار أم كلثوم لتكون شخصية المهرجان بإشادة واسعة من المهتمين بالغناء والموسيقى الذين رأوا في الخطوة تكريماً لائقاً لسيدة الغناء العربي في الذكرى الخمسين لرحيلها. ويمنح هذا الاختيار المهرجان زخماً جماهيرياً كبيراً،
إذ تُزيَّن مطبوعاته ولافتاته ومنشوراته الدعائية بصورتها، مما يضفي عليه قدراً من الرواج التجاري والإقبال الجماهيري، لكن المنظّمين والفنانين كرروا ما دأبت عليه الإدارات السابقة،
إذ منحوا أغنيات العقد الأخير من حياة أم كلثوم المساحة الأكبر، ثم بقدر أقل أغنيات العقد السابق له، وهو ما يتعارض مع الدور التثقيفي المنتظر من مهرجان ومؤتمر بحجم المهرجان المصري العريق.
فمعظم الشباب من الأجيال الجديدة، وممن لم يتعرفوا بعدُ بالقدر الكافي إلى التاريخ الفني لأم كلثوم، يظنون بعد هذه الحفلات وأمثالها أن بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب لحّنا الجانب الأكبر من أغنياتها.
ولا يشكل هذا الاختصار الكمي لمسيرة كوكب الشرق المأخذ الأهم على طريقة احتفاء المهرجان بها، إذ يتجاوز الانتقاد الكمّ إلى جوهر الأداء نفسه. فدار الأوبرا المصرية ومهرجان القاهرة في دوراته المختلفة اعتادا تقديم "أم كلثوم" من خلال أصوات مجموعة من المطربات، ينقسمن وفق طريقة الغناء إلى مجموعتين:
الأولى، وهي الأقل عدداً، تضم مطربات لا يفرّقن بين أداء أغنية لأم كلثوم وأغنية لعبد الحليم حافظ أو أي مطرب آخر؛ فصاحبة الصوت تؤدي اللحن بلا روح، وتقدمه أداءً باهتاً خالياً من البصمة الشخصية.
أما الثانية، وهي الأكبر عدداً، فتضم مطربات يحاولن تقليد أم كلثوم تقليداً حرفياً في كل تصرف و"عُربة" وزخرفة وإعادة، بل وأحياناً في الوقفة والهيئة ومسكة المنديل، وهو نمط من الأداء بعيد كل البعد عن فن أم كلثوم وفلسفة أدائها القائمة على الارتجال اللحظي والإبداع الخلاق مع كل إعادة.
يكاد المهرجان أن يكون في خصومة مع القوالب الغنائية الكلاسيكية، إذ إن المواد الغنائية المهيمنة على حفلاته تنتمي في معظمها إلى أشكال متنوعة من "البوب" الغنائي والأعمال المعاصرة.
وقد يظن من يطالع جدول الفعاليات أن فرقة الموسيقى العربية للتراث تسد هذه الفجوة، لكن تجربة الفرقة وحفلاتها على امتداد الأعوام السابقة تُثبت أن اهتمامها أوسع كثيراً من الانطباع السريع الذي يفهمه المستمع من اسمها، فهي تقصد بالتراث كل الغناء المصري خلال قرن مضى.
كما أنها عند اختيارها أعمالاً من هذا التراث لتقديمها، لا تحرص على أي قدر من الاتساق التاريخي أو النصي أو المقامي. وتمثيلاً
لذلك، فقد ضم برنامج إحدى حفلاتها الأخيرة مزيجاً لافتاً من الأغاني والمقطوعات: موسيقى "مدام تحب بتنكر ليه" لمحمد القصبجي، وموشح "عاطني بكر الدنان" لكامل الخلعي، و"سلامات يا حبايب"، و"تغريبة" لبليغ حمدي، و"انسى الدنيا"، و"لولا الملامة"، و"ماليش أمل"، ودور "عشقت روحك"،
و"القريب منك بعيد"، و"ساكن قصادي" لعبد الوهاب، و"أروح لمين" لرياض السنباطي، و"غاب القمر" لمحمد الموجي، و"مستني جواب" لمحمود الشريف، و"عنابي" لحلمي أمين.
وإذا كان هذا هو حظ القوالب الكلاسيكية في برنامج المهرجان، فإن حظ الموسيقى الآلية الكلاسيكية أقل وأضعف، إذ لن يستمع الجمهور إلى الموسيقى المحضة إلا في حفل عازف البيانو الأشهر عمر خيرت وفرقته،
فلا مكان في المهرجان للبشارف أو السماعيات أو اللونجا أو السيرتو. وما سيُعزف من مقطوعات آلية ينتمي كله إلى التأليف الحر وبتوزيعات حديثة، مما يعني أن البرنامج يفتقد إلى التوازن نوعياً وزمانياً.
أما في الشق البحثي، فيمثّل النقاش حول أثر التحول الرقمي على الموسيقى حجر الزاوية في المؤتمر، ويشكّل اعترافاً حاسماً بتأثر الموسيقى العربية الحديثة بمنطق العصر التقني وهيمنة المنصات الرقمية ووسائل الإنتاج التكنولوجية.
ويمكن للتحول الرقمي أن يشكل نافذة كبرى لـ"عولمة" الموسيقى العربية مع المحافظة على طبيعتها. فبدلاً من اقتصار النشر والوصول على شركات الإنتاج المحلية المحدودة، تفتح المنصات الرقمية مثل "سبوتيفاي" و"آبل ميوزك" و"يوتيوب" آفاقاً غير مسبوقة للوصول العالمي، ما يُمكّن المطربين والفرق الموسيقية العربية من تخطي الحواجز الجغرافية واللغوية.
كما يتيح العصر الرقمي إمكانيات هائلة للتوثيق والأرشفة عالية الجودة لتراث الموسيقى العربية النادر، بما في ذلك الأداءات الحية والمقامات الدقيقة والأصوات الآلية الأصيلة، وتصنيفها بطرق ذكية (ميتا داتا) تخدم الباحثين والموسيقيين في كل مكان.
والأهم من ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة لتطوير أدوات تعليمية تفاعلية تسهّل على الأجيال الجديدة فهم وتعلّم المقامات الشرقية المعقدة بعيداً عن الصرامة التعليمية التقليدية.
في المقابل، يفرض التحول الرقمي تحديات خطيرة قد تؤدي إلى تسطيح الهوية الموسيقية العربية وتهديد أصالتها. يكمن التحدي الأبرز في ظاهرة "التنميط" الموسيقي التي تفرضها الخوارزميات،
حيث يتم تفضيل الأنماط الموسيقية السريعة والموجزة والموحدة عالمياً (وغربية الطابع في الغالب) لضمان أعلى معدلات استماع، مما يضع ضغوطاً على المبدع العربي للتخلي عن القوالب الكلاسيكية الطويلة والعميقة.
كما تواجه الموسيقى العربية تحدياً في حماية الملكية الفكرية، ففي البيئة الرقمية يصبح الاستنساخ والقرصنة أسهل بكثير، مما يهدد الحقوق المادية للملحنين والمؤلفين ويقلل من حافزهم على الإبداع الأصيل.
وأخيراً، هناك تحدي "الجودة مقابل الكمية"، إذ تشجع المنصات الرقمية على الإنتاج الغزير والسريع، ما قد يأتي على حساب الإتقان الفني والتجويد الذي طبع الموسيقى العربية الكلاسيكية، فيتحول الإبداع من فن رفيع إلى "محتوى" استهلاكي سريع الزوال.
لكن من المهم أن يتذكر المسؤولون عن الجانب البحثي في المؤتمر أن تلك الرؤى والمناقشات لا يمكن ترجمتها إلى قرارات ملزمة، ولا حتى إلى توصيات إرشادية، إذ إن قرارات وتوصيات مؤتمر الموسيقى الشهير عام 1932 لم تجد من يتعامل معها بجدية أو يشعر نحوها بأي التزام فني،
ولا ريب أن توصيات مؤتمر عام 2025 ستكون أوهن في إلزامها أو الاهتمام التطبيقي بها، لأن العصر الرقمي وظروف الإنتاج تفرض قوانينها الخاصة، ولن ينتفع بها إلا من يتفاعل معها ويقدر على توظيفها لصالحه.
يكشف المشهد الكامل لمهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في دورته الثالثة والثلاثين عن ثنائية حرجة بين التكريم التاريخي الطموح والتطبيق الفني الجماهيري المحدود.
فبينما يرفع المهرجان بفخر راية أم كلثوم، محققاً بذلك نجاحاً جماهيرياً وتجارياً مضموناً، فإنه يقع في فخ "الاختزال الكمي والتسطيح النوعي" لتاريخها الفني، عبر حصر الاحتفاء في أغنيات عقديها الأخيرين وتفضيل الأداءات المقلدة الباهتة على حساب جوهر فلسفة أم كلثوم في "الإبداع اللحظي والارتجال المنظّم".
هذا السلوك، المقترن بهيمنة واضحة للقوالب الغنائية المعاصرة (البوب الغنائي) على حساب القوالب الكلاسيكية (كالموشحات والأدوار والبشارف الآلية)،
يُفقد المهرجان هويته كمؤتمر متخصص يُعنى بالتاريخ الموسيقي، ويحوله إلى احتفالية غنائية واسعة تفتقر إلى التوازن الزماني والنوعي.
أما الجانب البحثي، فإنه وإن كان قد وضع يده بدقة على مفترق الطرق الحرج المتمثل في تحديات وآفاق التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي،
إلا أن القوة الإلزامية لتوصياته تظل هشة. فمخرجات المؤتمر لن تجد طريقها إلى التطبيق ما لم تتحول إلى استراتيجيات تستغل أدوات العصر الرقمي نفسه،
مثل خوارزميات الترويج والتوزيع الذكي، لتمويل ودعم الإنتاج النوعي والمحافظة على التراث، بدلاً من تركه رهينة لذائقة السوق الرقمي التي تُفاضل بين "الكمّ السريع" و"الفن الرفيع".
إن التحدي الأكبر للمهرجان مستقبلاً هو أن يثبت أن تكريم أم كلثوم ليس مجرد صورة دعائية، بل التزام راسخ بإحياء الفلسفة الإبداعية التي مثّلتها في أوج عطائها وتطويرها.