صباح فخري.. عام على الغياب

 في حفل كبير حضره الرئيس شكري القوتلي في مدينة حلب عام 1946، قدم عازف الكمان الشهير الحلبي الأصل سامي الشوا، فتىً صغيراً في عمر 13 عاماً اسمه صباح أبو قوس، ليغني قصيدة "تعلم بكائي ونُح يا حمام". 
لفت ذلك الفتى الانتباه إلى موهبة فذة تفتحت منذ الطفولة المبكرة خلال مرافقته لوالده المنشد في الزوايا الدينية الصوفية في حلب، ما أتاح له بمساعدة موهبته الفذة امتلاك مخزون غنائي ضخم. وهذا ما دفع سامي الشوا خلال زيارته سوريا آنذاك، إلى مرافقته في حفلاته التالية في حلب وحماه وحمص ودمشق.

الحفلة الأهم من بين تلك الحفلات، التي انطلقت معها أسطورة صباح أبو قوس، هي حفلة دمشق في القصر الجمهوري، وكان الزعيم الوطني فخري البارودي من بين الحاضرين فيها، غنى فيها أغنية شهيرة من ألحان سامي الصيداوي "يا جارحة قلبي".  

أعجب البارودي جداً بموهبة صباح، فأطلق عليه لقبه وصار اسمه: صباح فخري (1933 - 2021)، ثم دعاه إلى الإقامة في دمشق والدراسة في معهد الموسيقى الشرقية الذي تأسسه، واضعاً "صباحه" بين أمين: تلبية دعوة سامي الشوا في الذهاب إلى القاهرة والانطلاق من هناك كما حدث لمعظم مشاهير الموسيقى العربية، أو البقاء في دمشق. 

انتصر خيار البقاء في دمشق، وبدأ صباح فخري الدراسة في معهد الموسيقى الشرقية وإقامة الحفلات مع زملائه في المعهد، بالتوازي مع الدراسة على يد أفضل الأساتذة.

الانطلاقة

بعد نصيحة أستاذه عزيز غنام بالتوقف موقتاً عن الغناء في مرحلة حساسة من مراحل نمو حنجرته لكونه بلغ سن المراهقة، عاد إلى حلب وأكمل دراسته الثانوية والموسيقية، وعمل في التعليم وأدى خدمة العلم، حتى أواخر الخمسينيات حيث عاد إلى ساحة الفن بصوت مكتمل الأركان. 

وضع نصب عينيه تقديم التراث الغنائي الأصيل الذي نشأ عليه، فبدأ بنشر ما تعمله من الأساتذة الكبار أمثال عمر البطش، وإبراهيم الدرويش، ونديم وعلي الدرويش، محمد رجب، عزيز غنام، ومجدي العقيلي. 

غير أن الانطلاقة الحقيقية على مستوى سوريا، كانت مع افتتاح التلفزيون العربي السوري عام 1960، حيث شارك في البرنامج التلفزيوني "مع الموسيقى العربية"، وسجل فيه عدداً من القدود والموشحات والقصائد والمواويل والأدوار. ثم قدم فيما بعد باقة جديدة من الموشحات والقصائد والأدوار بمرافقة وردة الجزائرية في مسلسل "الوادي الكبير". 

قدم في هذا المسلسل 23 لحناً جديداً له من ألحان خيرة الملحنين السوريين كعزيز غنام، عدنان أبو الشامات، أمين الخياط، محمد محسن، وشارك فيه أيضاً الملحن المصري بليغ حمدي في تلحين أغاني وردة. 

وقدم لاحقاً في مسلسل "نغم الأمس" ما يفوق 160 لحناً من القوالب المذكورة، زين بعض قدودها بتعديلات من قبل الملحن العبقري سهيل عرفة، وكان الهدف من تلك التعديلات إبراز قدرات صوت صباح فخري، بعد أن كانت مساحة ألحان تلك القدود أقل بكثير من قدرات صوته الجبار.

امتدت حفلاته إلى الأقطار العربية المجاورة، وانتشر انتشاراً هائلاً. بدأت أخبار حفلاته تطير في أرجاء العالم وصولاً إلى حفلة قصر المؤتمرات الشهيرة جداً في باريس. نجحت تلك الحفلة نجاحاً باهراً ففتحت له أبواب أهم العواصم الأوروبية والمغتربات، فغنى في قاعة نوبل للسلام في السويد، وقاعة بيتهوفن في ألمانيا، وصولاً إلى كاراكاس، حيث دخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية بعد أن غنى 10 ساعات متواصلة من دون استراحة، مع استمرار تفاعل الجمهور طوال تلك المدة، ما شكّل سابقة في الغناء على مستوى العالم كله.

الميزات الفنية

لا غرابة في أن جامعة متخصصة بالموسيقى مثل جامعة كاليفورنيا، قد جعلت عام 1992 من أداء صباح فخري مرجعاً معيارياً لغناء التراثي العربي الوارد في منهاج موسيقى الشعوب لديها. 

فقد امتلك فخري حنجرة نادرة، وصوته الرخيم الواثق القادر امتد على مساحة 3 أوكتافات (15 درجة)، ولم يكن صوته ليغير هويته أو جماله، سواء غنى في أدنى الدرجات أو أعلاها، إضافة إلى تلك القدرة النادرة على سلامة اللفظ وجماله، وطول النفس والقدرة الفائقة على التحكم بأعضاء التصويت التي اكتسبها بالتدريب الشاق والطويل والمبكر على تجويد القرآن، إضافة إلى قدرته الهائلة على الحفظ. واتصف أيضاً بالاجتهاد البالغ في التَعَلُّم.

صباح الملحن

بدأ صباح فخري التلحين في عمر 14 عاماً، حيث لحّن أغنية "يا رايحين لبيت الله" التي أذيعت على أثير إذاعة دمشق، ولحن لكثير من الشعراء أمثال فؤاد اليازجي، أنطوان شعرواي، جلال الدهان وعبد المجيد سيريس. 

وكان أسلوبه مميزاً في تلحين القصائد، مثل قصيدة "ريم على القاع" التي كانت عبارة عن "تخميس" ( تحويلها إلى خمس شطرات) لقصيدة أحمد شوقي "نهج البردى"، وقصيدة "قل للمليحة" و"لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم"، ثم قام بتثبيت هذه الألحان لتصبح فيما بعد مدرسة للمطربين، وتمارين صوتية لهم، وفرصة لإظهار قدراتهم الصوتية.

جمال سامي عواد  - الميادين نت