"كورال غاردينيا" يهدي أمسيته إلى "الأم السورية الحزينة"

 منذ تأسيسه في العام 2016، قدّم "كورال غاردينيا"، بإدارة غادة حرب، الكثير من الأمسيات التي تضمّنت مؤلفات من التراث الشعبي السوري، وأغنيات الرسوم المتحركة، إلى جانب الأداءات الجماعية لكلاسيكيات الغناء العربي، وبعض المؤلفات الكورالية العالمية. لكنه آثر هذه المرة، في حفله ضمن "قاعة الدراما" في دار الأوبرا السورية، أن يتّجه إلى عصر "الباروك" ليقدّم "الأم الحزينة" (ستابات ماتر)، وهي آخر ما كتبه الموسيقي الإيطالي جيوفاني باتيستا بيرغوليزي قبل وفاته بمرض السل.

الترنيمة المؤلفة من 13 مقطوعة تحكي عن عذابات السيدة مريم العذراء، التي بقيت تحرس آلام ابنها على الصليب، ومن كلماتها التي لا يُعرَف من كتبها: "هل يستطيع قلب الإنسان.. أن يمتنع عن المشاركة في ألمها.. في ألم تلك الأم الذي لا يوصف؟/ اسمحوا لي أن أشاطركم آلامه.. الذي قُتِلَ من أجل خطاياي.. من لي في العذاب مات/ اجعلني أشعر كما شعرت.. واجعل روحي تتوهج وتذوب".

المؤلف الإيطالي لحَّن هذه الكلمات في العام 1736، مُتخفِّفاً من الأوبرالية لصالح الأصوات الإفرادية، بحيث تتناسب أكثر مع الأجواء الكنسية. والجميل في هذه الترنيمة أنّ موسيقاها متنوعة بشكل مذهل في التعبير عن مزاجها الحزين، والذي يجمع بين الألم والرجاء، من دون أن يتخلى عن الحيوية اللحنية مهما كانت منغمسة في عمق القهر.

17 مغنية ضمَّهم الكورال لأداء هذه الترنيمة، بمشاركة عازفة البيانو راما نصري، ورباعي وتري مؤلف من آلتي كمان (جورج طنوس ونسرين حمدان)، وفيولا (راما البرشا)، بالإضافة إلى تشيللو (قره بيت أرسلانيان).

الانسجام التام كان واضحاً منذ البداية، ولجمالية الأصوات وصفائها قد يشعر المستمع أنه يصغي إلى تسجيل أستوديو، لكنَّ انتقال الشجن في الأصوات إلى المتلقين يعيد إليهم تلك المتعة بأصوات حيَّة، ترسم مشهدية من أقسى مشهديات الألم.

وزاد من حيوية الأمسية الاتّكاء إلى أصوات فردية في بعض المقاطع، من طبقة الآلتو (سناء بركات)، وطبقة السوبرانو (حنين الحلبي وتيما حرب)، وكأنَّ هناك ما يُشبه حفريّات في طبقات الرَّجاء التي أرادها بيرغوليزي، وهو ما تحقَّق بالتنويع بين طبقات الأصوات النسائية بما يُعزز التأثير بالمستمعين، لا سيما مع درامية تلك الحناجر المشبعة بالنقاء، ودراما الانتقال بين المقامات.

لم تقتصر لمسة الحزن الموسيقية على الأداء الصوتي، وإنما ساندتها الآلات الموسيقية، بحيث أنّها كانت ترسم مسارات الأسى من دون تكلُّف، مستعيدةً مناخات الموسيقى الكنسية التي كانت سائدة في عصر "الباروك"، وما فيها من استرحامات تتخلّى عن زخرفات الأداء، في مقابل تعزيزها لكلمات الترنيمة والأصوات التي تغنيها.

وساعد في ذلك أيضاً توزيع الأصوات النسائية إلى "سوبرانو أول"، "سوبرانو ثاني"، و"آلتو"، والذي قامت به الموسيقية سفانة بقلة، محقِّقةً أثراً بليغاً لدى المتلقين.

وإلى جانب "ستابات ماتر"، قدّم "كورال غاردينيا" أغنية "إيماني ساطع" للأخوين رحباني، بتقنية "الأكابيلا"، أي التركيز على جماليات الصوت البشري من دون مرافقة الموسيقى، بكلّ ما تتضمنه هذه الأغنية من أمل، وخاصة في مقطع الختام "أنا إيماني الفرح الوسيعْ.. من خلف العواصف جايِي ربيعْ.. إذا كبرِتْ أحزاني.. ونِسيني العُمر التاني.. إنت اللي ما بتنساني".

كما قدم الكورال أغنية "الثلج" (The Snow)، للمؤلف الإنكليزي إدوارد إلغار، التي تحكي عن وداع فصل الشتاء وانتظار الدفء، لتُختتم الأمسية بترنيمة "شمس المساكين" للأخوين الرحباني أيضاً، بأداء منفرد لهبة فاهمة، بما تحمله هذه الأغنية من ابتهال ورجاء عميق، يتجسَّد بمقولة "نادَيتَك مِن حِزني، عِرفت إنَّك مَعي".

وفي تصريح صحفي للمايسترو غادة حرب عن الأمسية، أوضحت أنّ البرنامج كان "انعكاساً للظرف الحالي بعد الكارثة التي خلّفها الزلزال، فأهدى كورال غاردينيا عمل "الأم الحزينة" إلى كل من فقد أعزاء، أو فقد الأمان والذكريات مع فقدان منزله، كما رفع الكورال بمناجاته الصلوات إلى الخالق، تحقيقاً لما نرغبه جميعاً من راحة وسكينة في هذه الأيام الصعبة".

واعتبرت حرب أنّ الحفل "كان مناسبةً أيضاً للاحتفاء بــيوم المرأة العالمي وعيد الأم، أما الطابع الكلاسيكي للحفل فجاء رغبة من الكورال بتقديم أمسية كلاسيكية بين الحين والآخر، لأهميتها في تطوير الأداء، وزيادة الخبرة في اللحن والمساحة الصوتية، وطريقة إخراج الصوت".

وحول المزج بين الغناء العربي والأجنبي في جميع حفلات الكورال، أوضحت مؤسِّسته أنّه "يمتلك خامات وخبرات مهمة لا بُدّ من استغلالها، تجلّى ذلك في نجاح الفتيات بالغناء بلغات عديدة، منها الألمانية والإيطالية والإنكليزية والفرنسية واليابانية والفارسية، بالإضافة إلى الأرمنية والكردية والسريانية والشركسية، وكل ذلك يأتي ليس فقط لما تفرضه طبيعة الحفل والأغنيات، بل إيماناً بأهمية وغنى التنوع الثقافي، الذي نصنع عبره نسيجاً واحداً جميلاً يحمل المحبة للجميع".

بديع صنيج - صحافي سوري