ما الذي جمع بين عبد الحليم حافظ ونجوم الأغنية الشعبية؟

 في العام 1987، أجرت الصحفية سلوى سالم تحقيقاً في جريدة "الأخبار" المصرية عن "ضرورة التخلص من عقدة عبد الحليم حافظ". جاء هذا التحقيق بعد استطلاع رأي أجرته الإذاعة المصرية عن أغنية العام ومطرب العام، ليفاجأ الجميع بأن عبد الحليم حافظ ما زال يكتسح نتائج الاستفتاءات، على الرغم من مرور 10 أعوام على وفاته. 

لكننا في الوقت ذاته يمكننا أن نقول إن عبد الحليم حافظ كان نجم "ترندات"، بلغة لحظتنا الحالية، وليس خفياً على أحد اختياره للألوان الغريبة عليه طوال الوقت، من باب أن يساير أجواء لحظته، وخاصة اللونين الشعبي والصعيدي، وهو ما خلق خريطة علاقاته بمطربي الأغنية الشعبية في زمنه، ابتداء من محمد رشدي، الذي كانت أم كلثوم تدعمه في العلن والخفاء، وصولاً إلى أحمد عدوية وشفيق جلال. 

عبد الحليم حافظ.. تجربة فنية أم ترندات متراكمة؟

بدايةً، علينا الإقرار بأنّ عبد الحليم حافظ كان يعرف جيداً طريقه إلى قلوب محبيه، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل كان حليم صاحب تجربة فنية حقيقية، أم كان يعرف فقط من أين يؤكل كتف "الترند" في زمنه؟ 

ربما قد نتبنى أن: نعم.. كان عبد الحليم حافظ نجم ترندات بلغتنا اليوم، وإن لم يكن معشوق الفتيات في مصر والعالم العربي في 3 عقود نجم "الترند"، فمن سيكون كذلك إذن؟! لكن في الوقت ذاته سيطلّ بالضرورة تساؤل مربك عن "ترنداته"، وإذا ما كانت تشبه "ترندات" اليوم، وهل كانت بهذه الخفة والسخافة؟ الإجابة قطعاً: لا! والأمر في هذه الإجابة ليس مرجعه أي حكم قيمي على ما قدّمه عبد الحليم حافظ، وإنما الإجابة تكمن في قيمة الزمن، التي منحت "ترندات" عبد الحليم حافظ مقومات البقاء حتى منتصف الثمانينيات. 

ربما تقديرنا، الذي يصل بنا إلى درجة التقديس لنجومنا الكبار الأيقونيين، يجعلنا نتغافل عن أن نستعرض ما قدّموا بشكل موضوعي، فنرفض كل ما نظنّ أنّه قد ينتقص منهم. 

سبق عبد الحليم حافظ صناع "الترند" بسنوات، ليس على مستوى تحقيق الشهرة فقط لا غير، بل تجاوز ذلك إلى أنّه كان يصنع "الترند" بالطريقة ذاتها التي يُصنع بها اليوم. 

صراع حليم - رشدي و"ترند" الأغنية الشعبية 

في العام 1965، باع الفنان رشدي نصف مليون أسطوانة من أغنيته الجديدة "عدوية"، وما كان المطرب الشعبي المصري يصيح في إحدى حفلاته "عدوية"، حتى ينقلب المسرح رأساً على عقب تصفيقاً وصياحاً، بعبارات حماسية استعداداً لسماع أغنيتهم المفضلة. 

كانت الأغنية حالة فنية فريدة وصادقة. يروي الموسيقي محمود العطار، في كتابه "حلاج الأوتار"، قصة كتابة هذه الأغنية، حيث يقول إنّه "بعد نجاح أغنية "تحت الشجر يا وهيبة"، التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي ولحنها عبد العظيم عبد الحق، توالت زيارات الأبنودي إلى منزل الملحن الكبير، وفي إحدى الزيارات قابل مديرة المنزل، والتي كانت تدعى "عدوية"، وكانت عدوية امرأة سمراء من صعيد مصر، لها خفة ظل أُعجِب بها الأبنودي، سألها منين الصبية؟ أخبرته أنها من قنا، فقال لها: "أنا هاكتب لك أغنية"، فردّت عدوية: "بس أنا عفشة"، فأجابها الأبنودي: "رغم كدا أنا شوفت جمال قلبك وهكتب لك الأغنية"". 

نجحت الأغنية نجاحاً رهيباً، وأصبح اسم محمد رشدي هو الاسم الطاغي في عالم الغناء في العام 1965 بسبب "عدوية"، وهو ما دفع عبد الحليم حافظ وقتها إلى أن يطلب من عبد الرحمن الأبنودي وبليغ حمدي أن ينتجا له أغنيات على نفس النمط الفلكلوري، الذي خلق له رشدي حضوراً وجاذبية في الشارع المصري، فكانت أغنيتا "على حسب وداد قلبي يا بوي" و"التوبة". 

وفي حقيقة الأمر فإن العندليب خطف الأبنودي، كما وصف الأبنودي الأمر، وذلك أثناء خروجه من الاستوديو بعد انتهائه من تسجيل إحدى أغنيات محمد رشدي، ليجد رجلين يرتديان الزي الأسود ونظارات شمسية ويطلبان منه التحرك معهما فوراً، وبالطبع استجاب الشاعر الجنوبي لأنّه ظنّ في بادئ الأمر أنّهما من "جهة عليا"، ويقبضان عليه بخصوص أمر سياسي، وحين وصل إلى منزل عبد الحليم فاجأه الأخير بقوله "ما كانش فيه طريقة أقدر أقابلك بيها غير كدا". 

شفيق جلال ووسام "العندليب"

وبينما كان عبد الحليم حافظ في الستينيات يستعين بشاعر وملحن صنعا مع رشدي حالة خاصة، فإنّه في الوقت ذاته كان يمدح صوت المطرب شفيق جلال كثيراً. 

تعرّف شفيق جلال على عبد الحليم حافظ في العام 1948، حين كان عبد الحليم عازفاً لآلة "الأيوا" في الإذاعة، ومن يومها لم تنقطع صداقتهما. 

يحكي شفيق جلال للصحفي مدحت أبو بكر، في التحقيق الذي أجراه الأخير لجريدة "الوفد" المصرية في آذار/مارس 1987، أنّ "عمر عبد الحليم ما حقد على حد ولا حارب حد.. وكمان هناك كثيرون لديهم القدرات دخلوا قلوب الناس..."، وعن الأزمة الشهيرة بين محمد رشدي وعبد الحليم حافظ، يقول جلال: "بالعكس.. لقد كان عبد الحليم يحب الجميع، وبعدين لماذا يحارب رشدي وهذا لون وهذا لون آخر". 

لم تكن المنافسة ضمن طموح شفيق جلال، أو أنّ طموح رشدي كان كبيراً بما يكفي لمنافسة العندليب، والدليل على ذلك أنّ شفيق اعتبر مدح حليم لصوته وساماً! إذ يقول صاحب "أمونة": "لقد وضع حليم وساماً على صدري حين تحدّث عني في برنامج "أوتوغراف"، وقال شفيق جلال صوت أصيل حلو لا يمل أحد حتى لو غنى ساعتين". 

عبد الحليم حافظ و"مرحلة السح الدح إمبو" 

تجلّى ذكاء عبد الحليم حافظ في اختياره للطريقة التي كان يتعامل بها مع كل مطرب جديد، وخاصة الذي يقدّمون غناء شعبياً، بدليل أنّه أدرك أنّ أحمد عدوية يمثل خلاصة "مرحلة" كاملة، سياسياً وفكرياً واقتصادياً؛ فكان غناء عدوية (الطريف في وقته) لا يمثّل أي خطر على عرش "العندليب"، الذي كان قد اتجه إلى القصيدة القصة المليئة بالدراما، الفصيحة منها مع نزار قباني، والعامية مع محمد حمزة وحسين السيد وعبد الرحمن الأبنودي. 

ذكر عدوية في لقاء له مع الإعلامية المصرية هالة سرحان، سنة 1998، على محطات "art"، أنّ "العندليب" كان يحب الاستماع إليه، وأنّه فاجأه في أحد الأفراح التي كان يغنّي فيها عدوية وشاركه غناء "السح دح إمبو"، الأغنية التي كانت "ترند" السبعينيات. 

لكن بقي عدوية، بأدائه الشعبوي وكلماته التي كانت تبدو كاريكاترية الطابع، بعيداً عن أن يكون منافساً لعبد الحليم، فكان "العندليب" يدعوه مرة أو مرتين شهرياً للغناء في منزله بصحبة 4 عازفين فقط، مطمئناً إلى أن صاحب "كراكشنجي دبح كبشه" من الصعب أن يقارن به، هو الذي راحت الفتيات يلقين بأنفسهنّ من النوافذ عندما سمعن نبأ وفاته بعد سنوات قليلة.

عمرو العزالي
كاتب وشاعر من مصر، حائز على (جائزة أحمد فؤاد نجم) لشعر العامية